يكتنز الصيام رسائل عديدة، ومن ضمن هذه الرسائل البديعة فن مكافحة الفقر. فمن سُنن رمضان الحسنة توزيع الزكاة للمستحقين في هذا الشهر الكريم بُغية نيل الثواب المُضاعف. كما أن مُطلق الحث القرآني والنبوي على الإنفاق والتصدق في هذا الشهر تندرج ضمن المشروع الرمضاني لمكافحة الفقر. كما أن للنذور والفدية والكفارة والوقف والصدقات الجارية وغيرها من وجوه البر صدى أروع في شهر رمضان المبارك. ومن الخطوات المؤثرة الأخرى في هذا المشروع زكاةُ الفطرِ الخاصة بهذا الشهر الكريم، والتي تهدف إلى توسيع نطاق الفرحة إلى أبعد مدى ورسم البسمة على وجوه الفقراء. ووجوب زكاة الفطر على هذا العدد الكبير من أفراد المجتمع المسلم يُدرب الصائمين على روح السماحة والكرم والمواساة، حيث يوجد أشخاص يدفعون زكاة الفطر، وهم لها مستحقون. ومن المظاهر الجميلة للتضامن الاجتماعي في شهر رمضان ظاهرة (موائد الرحمن)، والتي تنتشر في طول العالم وعرضه ويُدعى إلى حضورها كافة الناس، وظاهرة موائد الرحمن منبثقة من ظاهرة عريقة أخرى وهي الأوقاف والتي لها دور مهم في تنمية المجتمعات. يذكر كبار المؤرخين أمثال ابن جبير وابن خلدون وابن بطوطة أمثلةً من الأوقاف العديدة في مدن القاهرة وبغداد ودمشق والأندلس وهراة وغزنة وبلْخ وسمرقند ودلهي وإسطنبول والحرمين والقيروان وغيرها، وتتمثل هذه الأوقاف في الآلاف من المكتبات والمستشفيات والمدارس والمساجد والكتاتيب والآبار والجداول والأسواق والأراضي والبساتين ودور الضيافة وقاعات الأفراح ومراكز رعاية المسنين ودور الأيتام ومراكز دعم المديونين وغيرها من الأوقاف التي تسري فيها روحٌ جديدة مع بداية كل رمضان وتُمطر المحتاجين وابلا من عطاياها. لقد اعتاد المسلمون أن يُنجزوا أعمالا كبرى مثل تأسيس المدن والجامعات والمدارس والمساجد في هذا الموسم المبارك. ففي هذا الشهر وُضع حجر الأساس لبعض المدن مثل فاس وواسط وبعض المساجد مثل القيروان ومسجد الفسطاط وغيرها، كما أن أشهر وأعرق جامعات العالم الإسلامي مثل الأزهر وجامعة القرويين وجامعة الزيتونة تم تأسيسها في هذا الشهر الكريم. إن التقاء الأوقاف بالصيام التقاءٌ في الحقيقة للمادة بالمعنى، والتقاء السماوي بالأرضي، والعبادات بالمعاملات، والفرض العيني بالكفائي، والغِنى بالفقر، وحقوق الله بحقوق العباد في أجمل تجلياتها. هل سنستطيع مرة أخرى أن نُحيي ظاهرة الأوقاف الحضارية ونؤسس مراكز الزكاة وصدقة الفطر على النحو الذي يفي بحاجات الإنسان المسلم في القرن الحادي والعشرين؟ فالمسلم أجود ما يكون في رمضان وذلك اقتداء بقدوته الذي كان في هذا الشهر أجود بالخير من الريح المرسلة. * محاضر بجامعة (إس إم يو) بولاية تكساس الأمريكية سابقا