مطلع الأسبوع الماضي، وزعت شبكة الجزيرة القطرية بياناً صحفياً باللغة الإنجليزية على وسائل إعلام ووكالات أنباء عالمية، تعلن فيه التزامها بالحياد والموضوعية فيما وصفته بالخلاف الدبلوماسي بين قطر ونظرائها الخليجيين. وفي تناقض حادٍ مع مضامين بيان الشبكة، لم يكد يجفُّ حبر البيان حتى طالعتنا قناتها الجزيرة عربي في اليوم التالي ب«مادة تلفزيونية» تهاجم فيها الدول المقاطعة، في بناء قصصي تخلى بشكل واضح عن كل مفردات الحياد والأوصاف الصحفية، ليظهر في شكل نصٍ عاطفيٍ جريح، يتوسّل في المعاجم بحثاً عن مفردات العاطفة ودلالات المظلومية، توجتها بالاستعانة بآية قرآنية عنواناً لتقريرها الذي حلَّ به اسم «قطر» مكان اسم نبي الله يوسف في الآية القرآنية. تناقضات الخطاب الإعلامي بين قنوات شبكة الجزيرة لاسيما بين قناتيها عربي وإنجليزي، ملاحظٌ في أوساط المهتمين والباحثين في الشأن الإعلامي والسياسي. لقد بدا لعدد من المراقبين أن هذا التناقض والتباين في الخطاب ليس أمراً عفوياً، إنما هو مقصود ضمن إستراتيجية الشبكة الإعلامية المنبثقة عن الرؤية السياسية لدولة قطر. في مقال له (الجزيرة، شبكة واحدة برسالتين) عن تناقضات الخطاب الإعلامي بين الجزيرة إنجليزي والجزيرة عربي، يكشف ديفيد بولوك الباحث في معهد واشنطن، أن «على الجمهور الأمريكي معرفة أن الأخبار ووجهات النظر التي يراها في الجزيرة إنجليزي، لن يشاهدها غالباً على الجزيرة عربي، بل ربما سيرى ما يناقضها تماماً». ويشرح بولوك أن مبادئ العمل الصحفي ليست هي من يحرك تغطيات الشبكة، لافتاً إلى أن «الشبكة مرتبطة في تغطياتها بالأجندة والمصالح القطرية، وطالما استمرت هذه الممارسة، فإن الجزيرة لا يمكن أن تكون في موقع يؤهلها أن توصف بأنها مصلح حقيقي أو داعم للديمقراطية». ولعل أهم سمة ينتظم فيها التباين المخطط والمقصود يبرز في رواية القصة الصحفية الواحدة بين قنوات الشبكة، إذ يتم بناء القصة وفقاً للجمهور المستهدف الذي تتوجه إليه كل قناة برسالتها، والمرتبطة بدورها بالمصالح القطرية. من أوضح الأمثلة على ذلك، فيلم «الصراخ في الظلام»، وهو فيلم وثائقي عرضته قناة الجزيرة إنجليزي، يظهر مجاميع يحتجون ويتظاهرون ضد الحكومة في البحرين، غير أن هذا الفيلم لم يتم بثه على الجزيرة عربي، لحسابات سياسية مرتبطة بالدوحة في المنطقة. تم بناء تفاصيل هذا الفيلم بعناية لينسجم مع تصورات الجمهور غير العربي، الأمريكي والأوروبي تحديداً، ليقدم مشاهد تحاول إلغاء فكرة أن الاحتجاجات طائفية من خلال عرض أطباء شيعة يقفون مع أطباء ومسعفين سنة لتقديم الدعم والعلاج للمتظاهرين. وجها الجزيرة مرةً أخرى، لا يمكن فهم التباين بين الخطابات التي تتبناها قنوات شبكة الجزيرة في سياق منفصل عن الإستراتيجية السياسية لدولة قطر. ولعل أهم مدخل لفهم هذا التباين، يبدأ من فهم الصورة التي تريد قطر أن يراها عليها العرب والمسلمون، في مقابل صورة أخرى معاكسة تريد أن يراها عليها الغرب والشعوب غير الإسلامية، وكيف بنت الدوحة أدوات الخطاب لهذين الجمهورين المتناقضين. على قناة الجزيرة عربي، حيث التأسيس لصورة قطر المنافحة عن الحق العربي، والداعمة لمحاور المقاومة ضد الأطماع والهيمنة من إسرائيل والدول الغربية، والجريئة في دفاعها عن الإسلام «الإخوان وحركات الإسلام السياسي»، سيجد المشاهد العربي أنه بإزاء خطاب يمثله وجدانياً، فيحتفي بهذا الخطاب، لأنه سيرى الفلسطيني على القناة «مقاوما»، وإن قُتل فهو «شهيد»، وإسرائيل «دولة احتلال»، وأمريكا أيضاً دولة احتلال في العراق. وعلى قناة الجزيرة إنجليزي، لن يكون لأي من مفردات هذا الخطاب أي وجود، فالمحتل اسمه «إسرائيل»، والمقاومون هم «فلسطينيون»، والشهيد بات في معجم القناة «مقتولاً». ومع هذه الدعاية الدلالية في توظيف المفردات، يبدو تأثير التوجه البراجماتي للسياسة، الذي تتحول معه المؤسسة «الإعلامية» إلى مجرد أداة لتعزيز الأجندة السياسية. مكون واحد في دبلوماسية الدوحة الشعبية ينطوي نشاط «الدبلوماسية الشعبية» للدوحة التي تستهدف بها التأثير على شعوب الدول الغربية، ومراكز صنع القرار فيها، على سلة كبيرة من الأنشطة الاتصالية تشمل السياسة والفن والرياضة والثقافة وغيرها، وتقدمها عبر ميادين أخرى، ولا تنحصر فقط داخل إطار العمل الصحفي والإعلامي الذي تمثله نشاطات شبكة الجزيرة ووسائل الإعلام الأخرى التابعة للدوحة، غير أن الشبكة عبر لغاتها المختلفة تلعب دوراً كبيراً على هذا الصعيد كأحد المكونات المهمة للدبلوماسية الشعبية للدوحة، لذا يكلفها التزامها بهذا الخط أن تبدو للمتابع متناقضة ومتباينة، نظراً لتقييد نشاطها بما تم تحديده سلفاً من رسائل اتصالية تصب في هدف إستراتيجي واحد، وهو رسم الصورة الذهنية للدوحة بين المجموعات المستهدفة. على الجزيرة إنجليزي حيث الخطاب الموجه للغرب وغير العرب، ستبدو الدوحة واحةً للتنمية وقائدة للحداثة والانفتاح، محاربة للأفكار المتطرفة، في وسط إقليم لا يحتفي بغير القمع والدماء والعنف. ويتسم خطابها الإعلامي في ذلك عبر التركيز على نحو مستمر على عرض القصص والتقارير لخدمة عدد من الرسائل. من أهمها، «قطر» دولة رأسمالية، تؤمن بالتعددية والتنوع، ترحب بالاستثمار الأجنبي، تحتفي بالفن الإنساني عبر رعاية المعارض الفنية والاحتفاء بالفنانين العالميين، تفتتح المتاحف، بيئة جاذبة ومرحبة بمراكز الأبحاث والجامعات العالمية، مشجعة للرياضة، وتدخل في رعايات رياضية عابرة للحدود. وفي موازاة هذا النشاط الترويجي الهائل لصورة قطر، هناك نشاط آخر لا يقل عنه أهميةً في «شيطنة» الخصوم لاسيما السعودية والإمارات، إذ طالما احتفت قناة الجزيرة إنجليزي بالقصص التي من شأنها تقديم السعودية والإمارات في صورة المناهض للحريات في المنطقة، والقامع لحقوق الإنسان، والراعي لبذور التطرف والإرهاب في المنطقة، غير أن المرحلة الحالية التي تقاطع فيها عدد من الدول الخليجية والعربية بشكل صارم قطر على إثر رعايتها لمشاريع تقويض الاستقرار في المنطقة، ربما تكون أسهل مرحلة للاطلاع عن قرب على التناقضات الحادة والمزدوجة في الخطاب الإعلامي لقنوات شبكة الجزيرة. ففي الأيام القليلة الماضية، تبنت قناة الجزيرة إنجليزي خطاباً أكثر حدةً ضد الدول المقاطعة، فأضفت طابعاً من المأساة الإنسانية في تغطياتها للخلاف الخليجي عبر عناوين عاطفية موهمة، كأن يتم تصوير الدول التي أرادت أن تحمي أمنها القومي وممارسة سيادتها في مقاطعة قطر، على أنها تضرب «حصاراً» على الشعب القطري، وعناوين أخرى من نوع «السعودية تمنع المواطنين القطريين من زيارة الأماكن المقدسة بسبب خلاف سياسي».. «كيف فرق الحصار الذي تقوده السعودية شمل العوائل الخليجية».. «التحالف السعودي يقتل عائلة من 4 أفراد في اليمن».. وعلى الاتجاه المعاكس يتم تقديم قطر في إطار إنساني، لا يرد بالمثل، لأنه يراعي الجوانب الإنسانية في الخلاف. انهيار الجزيرة أمريكا.. والرهان على AJ+ لقد ظل البحث عن موطئ قدم داخل الولاياتالمتحدة للتأثير واستمالة الرأي العام الأمريكي، هاجساً يراود شبكة الجزيرة، وهو الهاجس الذي تم ترجمته لاحقاً في تأسيس قناة خاصة بذلك، وهي قناة الجزيرة أمريكا. ولأسباب عدة، من أهمها أنها لم تستطع أن ترفع متوسط معدل مشاهداتها إلى أكثر من 35 ألفاً في الليلة حسب مؤسسة الأبحاث نيلسن، وهو رقم ضئيل جداً، لم تصمد معه القناة أكثر من ثلاثة أعوام، على الرغم من صرف أكثر من ملياري دولار عليها. وعلى إثر هذا الانهيار، أدركت الشبكة أن فرصتها للبحث عن موطئ قدم للتأثير في الداخل الأمريكي، هو دور يمكن أن يؤديه المشروع الوليد حديثاً حينها، وهو الجزيرة بلس (AJ+) إنجليزي، وهي عبارة عن قناة إخبارية وترفيهية واجتماعية على تطبيقات الهواتف الذكية وحسابات الشبكات الاجتماعية. حاولت شبكة الجزيرة عند تأسيسها ل AJ+ عربي وإنجليزي، استلهام نماذج جديدة في صناعة المحتوى، ومن أهمها BuzzFeed وماشابل Mashable وهي مواقع تقوم على جمع الأخبار والمواد الترفيهية والاجتماعية والفيديوهات والصور، وإعادة تقديمها في قوالب رشيقة ومختصرة على خلاف وسائل الإعلام التقليدية، غير أن ال AJ+ لم يستطع -لا في نسخته الإنجليزية ولا العربية- الانعتاق عن الإستراتيجية الإعلامية الشاملة للشبكة، لذا اتسمت معظم تغطيات هذا الموقع بأدوات الخطاب نفسه في شقيقاتها من القنوات التقليدية، وبدت تغطيات الموقعين امتداداً طبيعياً للتناقض والتباين بين قناتي الجزيرة عربي والجزيرة إنجليزي. إذ على AJ+ إنجليزي، سيبدو الوجه الإنساني المتسامح للدوحة، عبر موضوعات معظمها ليست سياسية، بل ترفيهية وإنسانية متصالحة مع القيم الإنسانية الغربية، إذ يتبنى الموقع -مثلا- الدفاع عن الحقوق والحريات والوقوف ضد العنصرية والتمييز العرقي والجنسي، بما في ذلك الدفاع عن «حقوق المثليين» في كل مكان (نشر الموقع الكثير من المواد في الدفاع عن حقوق المثليين). وعندما تحضر السعودية أو الإمارات أو أي من خصوم الدوحة، فإن هذا الحضور غالباً سيكون عن طريق قصة صحفية تكرس لصورة ذهنية سلبية، إذ نشر الموقع الكثير من الصور والقصص الإنسانية ضد مقاطعي الدوحة. وعلى الاتجاه الآخر حيث قناة AJ+ عربي، فإن الشخصية الدينية والقومية هي من يهيمن على مفردات هذا الخطاب، ومعه تكاد تختفي القصص والمواد الثقافية والترفيهية، فيما يتصدر المحتوى السياسي بأكثر حدة في الطرح عن نظيره في القناة الجزيرة عربي. ومع هذا الواقع الغريب لشبكة الجزيرة على مستوى الممارسة الصحفية، وتباينات خطابات قنواتها الإعلامية، لا يبدو أننا بإزاء كيان إعلامي يمكننا أن نقيمه وفق آليات وقواعد العمل الصحفي، بل يبدو أننا بإزاء شبكة تؤدي مهمة محددة في صياغة وعي وصناعة التأثير تنتهي بخدمة أجندات سياسية. يصف الصحفي هيو مايلز المقرب من شبكة الجزيرة، ومؤلف كتاب: الجزيرة التي تتحدى الغرب، في تفسيره لدوافع الشيخ حمد بن خليفة وراء تأسيس مشروع شبكة الجزيرة: «يعتقد (أي حمد بن خليفة) أنه رجل قد أرسل في مهمة من الله»، في إشارة إلى أن شبكة الجزيرة لم تكن أكثر من مشروع سياسي، لا صحفي.