يجب الاعتراف - بدءًا - بأن من الصعب التكهن السريع بما ستكون عليه السياسة الخارجية للرئيس الأمريكي دونالد ترمب، ولكن بالنسبة للقضايا الراهنة فلن يكون أسوأ من باراك أوباما، الذي «خبص» المنطقة وسعى جاهداً إلى إخضاعها للهيمنة الإيرانية وتسليم طهران «الضبة والمفتاح» لتكون الشرطي المتوج. ولكن لنتفق بداية، أن هذا السؤال تحديداً لا يثير القلق والتوتر إلا لدى من يثيرون التوترات والقلاقل والمتاعب للآخرين أمثال إيران وأزلامها في العراق ولبنان، الذين بدأوا يتحسسون رؤوسهم ويبحثون عن خطط وألاعيب جديدة، وأما سياساته داخل بلاده فيتكفل بها الأمريكيون وحدهم. ليس لأن ترمب مضمون القول والفعل والتوجه، بل لأن أمريكا تحكمها مؤسسات فاعلة وليس الرئيس وحده. ومصلحة أمريكا وأمنها القومي ومن تصادقه ومن تعاديه من اختصاص مؤسسات الدولة العملاقة (establishments). قد يرتفع شأن دولة، وقد ينخفض قدر أخرى، لكن المصالح البعيدة المدى، والتحالفات المحققة للأمن القومي لكل بلاد لن تتلاشى بسرعة كما يظن البعض، ولا بد لها من المرور بمراحل عدة من فقدان الثقة والقوة والتأثير. صحيح أن ترمب أثار مخاوف عربية وغربية من تصريحاته بأنه سينقل سفارة بلاده لدى إسرائيل من تل أبيب إلى القدسالمحتلة، إضافة إلى خطاباته الاستفزازية والعنصرية التي تؤجج الكراهية، لكن من يقرأ ما بين السطور أخيراً يلاحظ أن بيان البيت الأبيض عن محادثة هاتفية تلقاها ترمب من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أشار إلى التهديدات الإيرانية، ولم يأت مطلقاً على ذكر نقل السفارة، لأن المؤسسات التي تحيط بالرئيس، ولها خبرة طويلة في شؤون المنطقة، كان لا بد أن تنصح البيت الأبيض بالتريث، قبل الإقدام على خطوة من شأنها أن تشعل الفتيل في المنطقة، وتثير غضب حلفاء تاريخيين للولايات المتحدة، تجمعهم بها مصالح مشتركة، وليس رغبة في الحماية كما تردد إبان الحملات الانتخابية. ولا بد من التذكير بأن ترمب ليس من الطبقة السياسية في واشنطن، بل رجل أعمال يفكر جيداً في صفقات الربح والخسارة. ولا شك أن كثيراً مما ردده في حملته الانتخابية وأثار القلق والحنق سيكون مصيره الإهمال من قبل الرئيس نفسه، لأنه لن يتخذ قراراته قبل استشارة معاونيه واستمزاج رؤية مؤسسات الدولة، لأنه لن يتحمل مسؤولية الزج ببلاده في معارك جديدة قد تهبط بأسهمه في وقت مبكّر. وكما كتبت سابقاً في هذا الحيّز، يبدو ترمب شبيهاً بأحد أعظم رؤساء أمريكا القادمين من خارج الطبقة السياسية، وهو رونالد ريغان، الذي أدخلته حنكة معاونيه، وحصافة المؤسسة الحاكمة، التاريخ بمساهمته في تفكيك الاتحاد السوفيتي السابق، والتوصل لمعاهدات لخفض الترسانة النووية، وكذلك تفكيك حلف وارسو!. صحيح أن أهداف كل سياسة خارجية وداخلية تتغير للأحسن أو الأسوأ، لكن ما يرتبط منها بالأمن القومي للدولة هو الأكثر حذراً وثباتاً، وحفزاً على التقارب بين الدول والحكومات وفق نوعية المصالح أولاً. وليس ثمة شك في أن دول الخليج بينها وبين الولاياتالمتحدة مصالح مشتركة وغايات عدة. يظل النفط في صدارتها، بحكم بقائه عاملاً أساسياً لتسيير عجلة الحياة. وتنسحب على ذلك سياسات تسعيره، وأمن إمداداته، وحماية مصادره، لتجنيب العالم أزمة تنعكس على مفاصل الاقتصاد الذي يعاني هشاشة أصلاً. ويدخل في هذا الجانب أمن الخليج لتوفير الحماية اللازمة من الأنظمة المغامرة كنظام ملالي طهران الذي لا يريد أن يكتفي بأوهام مد النفوذ، بل يحلم ببسط سيطرته على بلدان منابع النفط ويهدد بغلق الممرات البحرية وأولها مضيق هرمز، ودحرجة الفتن والطائفية والإرهاب وسياسة المحاور العدائية. وكلها حيثيات توفر التقاء بين مصالح السعودية والولاياتالمتحدة في المنطقة، وبينهما علاقات وثيقة تاريخية تدعم ذلك. كان الرئيس ترمب أشار مراراً قبيل تنصيبه إلى وجوب أن تدفع دول الخليج للولايات المتحدة مقابل حمايتها. وهو حديث غير دقيق، صدر عن الرجل قبل أن يصبح رئيساً للإدارة الأمريكية الحاكمة التي تعرف أن السياسة لا تعرف الهدايا والخدمات المجانية. فلو اقتنت السعودية سلاحاً فهي تدفع قيمته بالكامل. وحين دعا داعٍ لتدخل أمريكا في المنطقة لدحر الغزو العراقي الغاشم للكويت دفعت الرياض ما ترتب على ذلك من أكلاف باهظة. وحتى حين تقرر تشكيل التحالف الدولي لدحر «داعش» في سورية والعراق، ساهمت المملكة والدول المتحالفة الأخرى ودفعت ما عليها من تبعات لتحقيق الهدف المشترك الذي أدى لبروز ذلك الحلف الدولي. يأتي ترمب.. يذهب أوباما.. تبقى المصالح المشتركة، والتهديدات المشتركة، والعلاقات التاريخية العريقة. لا يتغير شيء أو كما يقول الأمريكيون: Business as usual.