يتنافس الناس في حياتهم للحصول على منصب عالِ يعزّز في النفس حاجاتها من الجاه والتقدير والاتِّباع , بأن يكون الشخص محطّ أنظار الآخرين , بينما آخرون يهرولون في التجارة طمعنا في جمع المال وعدّه. وهنا يفترقان! هل الافضل قضاء زهرة العمر ونشاطه في الوصول للمنصب أم في جمع المال!! يقرر عالم الاجتماع بن خلدون أن الحصول على المنصب أفضل في أعراف البشر لأنه يجلب المال , وذلك أن ذا المنصب يتقرّبُ الناس إليه ليقضي لهم حوائجهم , فيدفعون له المال بالرشوة والهدية والعطية ومنحه فرصاً تجارية لا تتأتّى لغيره! وحينئذٍ يكون ثريّا من خلال المنصب! هذه الفلسفة الواقعية تنجح أكثر في بيئات مجتمعات الفساد التي يضعف مراقبة الله تعالى فيها مع غفلة عين الرقيب! والفساد لا يزيد ثراء للمفسدين فقط وإنما يجعل تركيبة المجتمع هشّة قابلة للانهيار الاقتصادي في أي أزمة. لذا يتأكد أن يُحاسب كل ذا منصب يحصل على أموال باردة " من أين لك هذا" ولو بعد تركه المنصب فقضايا الفساد لا تسقط بالتقادم , حيث جعل المال يدور بين أمثاله , ويبقى الصانع والفلاح الصغير وتاجر الاستهلاكيات في دائرة ضيّقة من تحصيل أرزاقهم ينخنقون ويتلاشون سريعا وهذه الرأسمالية الفاشلة. وإذا غاب التّجار الصغار والفلاح وذا الحرفة والمهنة عن العمل توجّه صاحب النفوذ بمنصبة للاستيراد أملاً في زيادة ثراءه وفرصة للثغرة التي أحدثها في السوق بفساده وهناك يبقى البلد خاوياً من موارده ما يؤثر على اقتصاده على المدى القريب والبعيد. وعندما يدور المال بين أصحاب القرار والأثرياء تظهر الطبقية المجتمعية , ويزيد الفقر, وتكثر البطالة , وينتشر الاحتكار , وتتضخم الاسعار ويرفع الشباب رؤوسهم عن الأعمال التي تخدم المجتمع حقيقة كالحرف والمهن. وفي الاسلام المال دولة بين الناس –أي يدور- والناس يرزق بعضهم بعضا , بما يصنعون ويتقايضون ويبيعون ويبتاعون , وهذا مكمن الاستقرار في بلدان فقيرة الموارد لا تشتكي من الجوع , لأن كلٌ يعمل في صنعة وزراعة ووظيفة تنفع الآخر. وهذا منهج الاسلام "دعوا الناس يرزق بعضهم بعضا". هنا تساؤل؟ لمسؤول أفنى زهرة عمره في الوظيفة , حتى حصل على أعلى الرتب والمناصب , وبعد تركه العمل تجده ملَك الاموال الطائلة!!! لنفترض جدلا أخذها بكدّه وعمله وتجاراته! هل يمكنه أن يجمع بين الوقت الكافي للتجارة وانشغاله بوظيفته القيادية؟ خذ مثلا لوظائف قد تكون منزلقاً للفساد المالي ويتأكد مراقبتها من أعين الناس قبل الموظف الرسمي: وظائف لجان مراقبة وترسية المناقصات الحكومية. وظائف مراقبي الاسواق والمطاعم والأنشطة التجارية عموما. وظائف الجمارك. وظائف منح رخص مزاولة الاعمال التجارية. وظائف تقرر إنشاء الشركات والمؤسسات التجارية. وظائف جباية المال الغير منضبطة تقنيا. وظائف الموافقة على فيّز العمالة. وظائف التعقيب والخدمات. معلمي الجامعات والمدارس الاهلية ومعاهد التدريب وغيرها. كم من وظيفة هنا يمكننا أن نقترحها للمتابعة في "هيئة مكافحة الفساد"! نزاهة؟