هيكل القضاء الحالي كجهاز مستقل عن السلطة التنفيذية هو أمر في غاية الأهمية ويجب الحفاظ عليه، وهو من أساسات تثبيت النزاهة والعدالة في البلد كنتُ قد كتبتُ بعض الملاحظات على بعض المجالات التي تخص المجلس الأعلى للقضاء، ورأيت أنها تحتاج إلى إعادة نظر أو مراجعة، إلا أنني اليوم أكتب شيئا مختلفا، فالحكمة ضالة المؤمن، والهدف من النقد دائما هو الإصلاح، ومن الإصلاح أيضا أن نشيد بالمجتهد والمخلص، خاصة بمن كان في مرحلة البناء التي يعتريها دائما الكثير من المصاعب والعراقيل. قبل بضعة أعوام؛ تم تعيين سماحة الشيخ صالح بن حميد رئيسا للمجلس الأعلى للقضاء، وفرح الناس كثيرا بهذا الاختيار، حيث يحظى الشيخ وفقه الله بتقدير وثقة الكثيرين، ولما له من سعة علم واطلاع، وما يتميّز به من حكمة وسعة أفق، حتى إنه يتسع صدره لمخالفيه كثيرا، ويجامل الجميع وفيهم من يوافقه ومن يخالفه. الحقيقة أن الشيخ بإخلاصه قد خطا بالمجلس خطوات كبيرة، كانت محلّ تقدير ولاة الأمر بلا شك، حيث قام بتأسيس المجلس بالهيكل الجديد الذي وضعه نظام القضاء الأخير، فلم يكن لدى المجلس حتى السجلات الكافية فضلا عن قاعدة معلومات! ولم يكن فيه إدارات لتوزيع الأعمال ودراستها ومتابعتها بما تتطلبه مسؤولية كبيرة كأعلى سلطة قضائية تقريبا. ثم إنه في عهد الشيخ تم وضع العديد من القواعد والتنظيمات واللوائح الخاصة بعمل المجلس، ويمكن للراغب الوصول إليها بسهولة من خلال موقع المجلس، العمل الذي يفتقر إليه الكثير من الدوائر الأخرى، حيث بوضع هذه القواعد يمكن توفير الكثير من الجهد والوقت وتركيزه في المجال الذي يستحق الجهد. وهذه بصمة تركها بوضوح اختيارُه لثلّة من القضاة والمشايخ كمعاونين له، فهم يُدركون باطلاعهم الدائم على الأنظمة واللوائح أهمية مثل هذه التنظيمات ودورها الكبير في تطوير مرفق القضاء. من تلك التنظيمات على سبيل المثال؛ القواعد التي وُضعت لنقل القضاة، المسألة التي كانت معضلة في السابق، بسبب غياب التنظيم، حيث وُضعت قواعد بكل شفافية ووضوح، أعطت للجميع حق المساواة في النقل، دون الحاجة إلى التشفّع والمعاريض. وبالاطلاع على سلسلة التنظيمات؛ يلمس منها الكل وضوح مبدأ الشفافية في التعيين والنقل والتفرغ والتدريب والتفتيش وغير ذلك. حتى إن أسماء المرشحين للنقل يمكن الوصول إليها من خلال موقع المجلس على الإنترنت، الأمر الذي نفتقده في الكثير من الدوائر الأخرى، مما كفل للجميع المساواة والشفافية. وهذا لا يعني الكمال، فالنفس البشرية بطبيعتها أنها لا تكمل، وكلنا نحاول ونجتهد لكي يكمل بعضنا بعضا، ومن يدعي الكمال فهو كاذب. وبعد استقالة الشيخ من منصبه، الحقيقة أن الكثير أخذ يدعو له لسيرته الطيبة جزاه الله خيرا، كما أن البعض الآخر بعد تعيين معالي وزير العدل رئيسا مكلفا بالمجلس (وأرجو أنه خير خلف لخير سلف) أخذ يتساءل عن مستقبل المجلس ومدى استقلاليته وغير ذلك من الأسئلة، وسأقول رأيي بكل تجرّد في المسألة. بلا شك أن ولاة الأمر وفقهم الله يعنيهم كثيرا استقلال القضاء وقوة هيبته، ودائما لا يختارون إلا القوي الأمين على مثل هذه المراكز الحساسة. وما يعنيني هنا هو طرح رأيي في ما هو الأفضل لمرفق القضاء من الناحية التنظيمية؟ والذي أعتقده أن هيكل القضاء الحالي كجهاز مستقل عن السلطة التنفيذية هو أمر في غاية الأهمية ويجب الحفاظ عليه، وهو من أساسات تثبيت النزاهة والعدالة في البلد. كما أنه من الأفضل أن يُعزز هذا الاستقلال بضم جميع ما يخص القضاء في عمله الإداري والمالي من إدارات وميزانية وشؤون القضاة ومعاونيهم إلى أن تصبح تحت هيكل المجلس الأعلى للقضاء كما هو الحال بالضبط في ديوان المظالم، مما ضمن له استقلاله كما أراد له ولاة الأمر. وربما هناك إشكال آخر غير ما يتعلق بالاستقلالية؛ وهو تضارب أو تعارض الأولويات بين الجهة ذات السلطة القضائية (المجلس) والجهة الإدارية (وزارة العدل)، مما قد يتسبب في الكثير من التأخير والإشكال في المشاريع والأعمال. فالأولى في نظري أن ينحصر دور الوزارة في غير ما يمس القضاء بشكل مباشر؛ كالنواحي السياسية أو مسائل الإنهاءات وكتابات العدل، بالإضافة إلى ما يتعلق بتدوين/تقنين الفقه المتعلق بالقضاء وما أشبه ذلك، أما أن يكون القضاء تحت سلطتين مختلفتين؛ فربما يتسبب هذا في الكثير من المشاكل الإدارية فضلا عن قضية الاستقلالية. والكثير يعتقد أن من أهم أسباب بطء برنامج الملك عبدالله لتطوير القضاء هو التداخل بين صلاحيات المجلس والوزارة، الأمر الذي أرى أن أفضل وأنجع السبل لحلّه هو ما ذُكر أعلاه والله أعلم، وهو ما يُحقق رغبة الملك عبدالله الشديدة في تطوير مرفق القضاء ودعمه، حيث من المؤسف أن يتوفر هذا الدعم الكبير من خادم الحرمين ولا نرى له أثراً ملموساً في تطوّر القضاء، لا في المباني (الأمر الثانوي بنظري) ولا في جوهر وبُنية القضاء نفسه، أسأل الله أن يوفق الجميع لخير وصلاح هذه البلاد وعزها، والله الموفق.