جاءت نهاية المثقف الفضيل بن عمران على نحو درامي في العصر العباسي فقد وُشي به إلى المنصور أنه يعبث بغلامه جعفر، وكان الفضيل كاتب ابنه جعفر، والكاتب كان مثقف العصر يومها قد أخذ من كل علم بطرف. أرسل المنصور اثنين من الزبانية وأوصاهما بحرص أن يقتلوه ولو تعلق بالغمام. يتدخل شخص فيصف الفضيل بأنه «رجل عفيف ديّن» وأنه «أبرأ الناس مما رمي به وقد تعجلت يا أمير المؤمنين»! فيرسل المنصور يعزِّز بثالث قائلاً له: «لك عشرة آلاف درهم إن أنقذته، فامضِ بخطابي بحقن دمه». لكن الرسول يصل وقد سفح دمه ولم يجف بعد. رجع الرسول مكسوفاً إلى الخليفة أن السيف سبق العذل. يلتفت المنصور إلى مولاه سويد قائلاً: «ما تقول لأمير المؤمنين في قتل رجل عفيف دين مسلم بلا جرم ولا جناية»؟ قال سويد: «هو أمير المؤمنين يفعل ما يشاء، وهو أعلم بما يصنع». يغضب المنصور ويقول: «أنا أسألك في الخاصة وأنت تجيبني في العامة. خذوه من رجله فألقوه في نهر دجلة». إن إعادة النظر في تاريخنا لاكتشاف حقيقته من جديد ضرورية لإخراجه من خانة القدسية، وإعطائه حقنة تواضع إنه بشري مختلط بمظاهر الضعف والقصور وملطخ أحياناً بالدم، وإننا ما زلنا نرضع من نفس الثقافة العباسية بفارق ألف سنة، وجراثيمها الإمراضية تضرب مفاصل ثقافتنا بألم. في ذلك الوقت كان المغني إبراهيم الموصلي يأخذ من الرشيد 200 ألف دينار، ما يعادل ميزانية دولة في تلك الأيام، ويترك المنصور في خزائنه 14 مليون دينار و600 مليون درهم يفرقها المهدي بين الناس سوى ما جبي في عصره. في نفس الزمن كان الشاعر أبو العتاهية يسجل منظراً مختلفاً لحياة الناس الغارقين في البؤس: من مبلغ عني الإمام نصائح متوالية إني أرى الأسعار أسعار الرعية غالية وأرى المكاسب نزرة وأرى الضرورة فاشية وأرى غموم الدهر را ئحة تمر وغادية وأرى اليتامى والأرامل في البيوت الخالية يشكون مجهدة بأصوات ضعاف عالية