د. الشريف حاتم بن عارف العوني - نقلا عن الاسلام اليوم كلّنا يدرك خطر تدخل حكومة إيران في الدول العربية عمومًا ودول الخليج خصوصًا، وكلّنا يدرك خطر التمدّد الشيعي في بلدان العالم الإسلامي، وكلّنا ينتابه شعور بغضب واجب تجاه الروح الطائفية للحكومة الإيرانية، والتي أغضبت معتدلي الشيعة في إيران قبل غيرهم. هذه كلها نقاط اتفاق، وليست مجالاً للنقاش. ولم أبدأ بذلك إلاّ لأخاطب خطاب التطرّف الذي بدأ يسود، والذي أسمعه ممن لا ينبغي أن يجرّهم متطرفو الشيعة إليه. فهل يمكن أن نكون وطنيين دون أن نعتدي على شيعة إيران بمثل وصفهم بكونهم مجوسًا؟! هل يمكن أن لا نُتّهم بولائنا لمجرّد أننا قد اقتنعنا بأن الاعتدال حتى مع طائفة غلب عليها التطرّف والغلوّ هو الوسيلة الوحيدة للنصر؛ لأن شرط النصر الإلهي هو أن يكون قائمًا على العدل؟ هل يمكن أن نكون سلفيين دون أن نثير الطائفية؟! هل يمكن أن ننتقد التطرف الواقع منا دون أن يَمنعَ من قبول هذا النقد كونُ الشيعة أشدّ تطرّفًا منّا؟! أو بعبارة أخرى: هل لا يصحّ أن أنتقد التطرّف الأخفّ لوجود التطرّف الأشدّ؟! وحتى لو كنت أوجه نقدي لمن هم أولى بقبوله مني؟! هذه أسئلة تفي بالجواب عن نفسها بنفسها، وهي تبيّن المعضلة التي يصنعها المتطرفون الذين يتوهمون أو يُوهمون أنه بغير تطرّفهم لن تتحقّق الوطنية ولا السُنية، ويريدون التربّحَ من خلال شعار الوطنية والحميّة السنيّة لأجل إشباع جشع عنصريّتهم ولأجل إرضاء أهواء تطرّفهم. سيقول لي بعض أحبابنا: لماذا الحديث الآن عن الاعتدال مع كل تلك الحملة الشرسة من الصفويين ضد بلادنا وديننا وضد أهل السنة في الأحواز؟! هذا هو السؤال الذي سيقوله كثيرون، وهو نفس السؤال الذي جعلني أسأل أسئلتي السابقة: فهل نحن فعلاً نتصور أننا لن نكون وطنيين إلاّ بمواجهة الظلم بالظلم؟! هل نحن حقيقةً نعتقد أن الحق ضعيف فلا بد من تقويته بالباطل لكي ينتصر؟! هل نسينا قول الله تعالى: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)؟! هل استبدلنا هذه الآية بقول الجاهلية: ألا لا يجهلنْ أحدٌ علينا فنجهلَ فوق جهلِ الجاهلينا وقد يسأل بعض أحبابنا: أين هو الظلم الذي وقع منا ضدّ الشيعة عمومًا؟ وشيعة إيران على وجه الخصوص؟! ولن أخوض في نقاش تفاصيل ذلك، ولن أكون محاميًا عن الشيعة، لكني سأكون محاميًا عنا، بإعانة أحبابنا على أنفسهم بترك الظلم في صورة واحدة ظاهرة ظهور الشمس، وهي وصف شيعة إيران بأنهم مجوس! أصبحت هذه العبارة تتردّد كثيرًا، ومن جميع المستويات، وصار يستغلها دعاة الطائفية، وأُحييَ من جديد ذِكر كتاب (وجاء دور المجوس)، وصرنا كمن يظن أن أصوات الأبواق لا تُواجه إلاّ بأبواق أكبر. أحبابنا: هل شيعةُ إيران شيعةٌ إمامية أم مجوسٌ؟! إن كان مقصود هذا الوصف أنهم كفار، وبغض النظر (عما لا يُغَضُّ عنه النظر) من هذا الخطأ في التكفير الجُملي لآحاد الشيعة، والذي يشملهم فردًا فردًا، فلو افترضنا أنهم كذلك (وأستغفر الله من أن أقول ذلك): فهذا أيضًا لا يُجيز وصفهم أنهم مجوس؛ ما داموا لا يدينون بدين المجوس. ولكي يتضح المقصود: لو قلت للنصراني (يا يهودي) لكان ذلك ظلمًا منك له لا يرتضيه الحق، ولا يرتضيه الموصوفُ به نفسُه، وسيكون في معيار الحق والعُرف شتمًا وسبابًا، وليس حكمًا شرعيًّا ولا وصفًا صادقًا. وكذلك لو قلت للهندوسي (يا نصراني) لكان ذلك ظلمًا للحق لمخالفته للحق، ولن يرضى بذلك الذي وصفتَه به، ولن يرضى عنك الحق قبله. ولذلك فلو كان الشيعة في إيران كفارًا (كما يدلّ عليه وصفهم بأنهم مجوس) فلن يكون وصفهم بكونهم مجوسًا وصفًا صادقًا، بل هو وصف كاذب؛ لأنهم (وبكل سهولة) ليسوا مجوسًا. وتعالوا نناقش الموضوع بطولة بال وسعة صدر: ما دام شيعة إيران ليسوا مجوسًا، فلن يكونوا مثل المجوس تمامًا؛ لأنهم (وبكل سهولة أيضًا) ليسوا مجوسًا. وهم حينئذ إما أنهم شرّ في كفرهم من المجوس: فسيكون ظلمًا للمجوس أن نصفهم بذلك، وإما أنهم أقل شرًّا (ولن أقول: خيرًا؛ لكي لا أخرج من ملة الإسلام!!): فسيكون ظلمًا لهم أن نصفهم بأنهم مجوس. هذا كله إذا كنّا عقلاء ولم نصل إلى حد ادّعاء أن شيعة إيران مجوس فعلاً، وأنهم يُظهرون الرفض ويبطنون دين المجوس المحض. وهذا الحدّ من انعدام العقل صار من الممكن أن يكون مجالاً للنقاش في ظل غياب العقل بسبب الخطاب الطائفي المقيت الذي لا ينصر حقًّا، ولا يدفع باطلاً، ولا يرفع ظلمًا عن أهل السنة، ولا يفيد في شيء؛ إلاّ إذا رضينا من منطقتنا أن تصبح مارستانًا للمجانين، بالسماح لهذيان التطرّف المجنون هذا أن يسود. ومع ذلك فسوف أناقش هذا الفساد العقلي الذي استشرى داؤه في سَكْرة الطائفية، فأقول لأحبابنا: هَبُوا أن شيعة إيران مجوس فعلاً، وهم يتسترون بالمذهب الإمامي عن إظهار المجوسية، وليس لدينا دليل قاطع (ولا غير قاطع عند العقلاء) على أن الشعب الإيراني أو حكومتهم وجنودها من الحرس الجمهوري وغيرهم يبطنون المجوسية، فهل يجوز لنا شرعًا إلاّ معاملتهم حسب الظاهر؟! لقد كان عبد الله بن أبي بن سلول كافرًا، وأظهر الإسلام، فعامله النبي -صلى الله عليه وسلم- هو ومن معه من المنافقين معاملة المسلمين، ما داموا يُظهرون الإسلام. فهل يكون في هذا التعامل ما يكفي لإقناع الذين غيّبوا عقولهم، لنقول لهم: عاملوا شيعة إيران أنهم أهل ضلال مبين، عاملوهم (حسب فتواكم) أنهم كفار، لكن سيبقى أنهم ليسوا مجوسًا، لا شرعًا ولا عقلاً. فلا يجوز شرعًا وصفهم بأنهم مجوس، حتى لو كانوا مجوسًا من وراء ستار كبير!! وحتى لو كان على عقولنا غشاء كثيف!! وسأختم مقالي الذي أخاطب به أهل السنة بسؤال أخير: هل يمكن أن نطالب أهل السنة بالاعتدال دون أن يُقال لنا: كيف تطالبوهم بالاعتدال وغيرهم أحوج إليه؟ هل يمكن أن تكون مطالبة أهل السنة بالاعتدال مقبولة مع ما يحصل من متطرفي شيعة إيران الذين سفكوا الدماء في العراق والأحواز، والذين هم (قبل ذلك) قد كفّروا الصحابة -رضي الله عنهم- والأمة كلها ممن لم يوافقهم؟! إني عندما أطالب أهل السنة بالاعتدال لا لأنهم أحوج إليه من الحكومة المتطرفة الحالية في إيران ولا لمن يؤيدها في هذا التطرف، وإنما لأني (أولاً) واحدٌ من أهل السنة؛ فهم أقرب بقبول نصحي من غيرهم، فهذا المقال خطابٌ مني خاص بهم، ولأني (ثانيًا) أريد لهم النصر والتأييد الإلهي، والذي لا يكون إلاّ إذا أقاموا العدل في التصوّرات والأحكام وفي الأقوال والأفعال. ومع ذلك فلن أخلي هذا المقال من كلمات أوجّهها لعقلاء الشيعة: لماذا يغيب صوتكم أيها العقلاء إلى هذا الحد؟! حتى يكاد لا يُسمع؟! لماذا لا تعترفون بمظالم أهل السنة في الأحواز وغيرها؟! لماذا لا تصرحون بحاجة المذهب إلى التخفيف من شَحنهِ الطائفي الذي يُغذَّى به الصغارُ والكبار، وتختلقون له المناسبات والعزاءات وأيامَ النكد والحقد؟! لماذا لا تدركون أن واقعَ كون الشيعة أقليةً واقعٌ لن يتغير، ما دام لأهل السنة عينٌ تطرف؛ فأهل السنة لن يقبلوا بتغير هذه المعادلة، ولا يغرّنّكم جهل بعضهم ولا تسامح غيرهم ولا ضعفٌ فيهم هنا ولا غفلةٌ هناك، فإذا جدّ الجد فالله حافظٌ دينه، وسيظهر لكم من يقظة أهل السنة ما لن تحمدوا معه إلاّ مذهبَ التقية والتخفّي، فليكن سعيكم للتعايش جادًّا، بدلاً من المواجهة؛ فالتعايش هو خياركم الوحيد، أكثر من أن يكون خيارًا لأهل السنة، الذين تتعدّد عندهم الخيارات، وإن كانوا يفضلون التعايش أيضًا. ولا أدري إلى متى لا يدرك متطرفو الشيعة ما نتج وينتج عن تطرّفهم وعدوانهم، ومن آخره ما وقع ويقع في العراق والأحواز. هل كانوا يظنون أن صور ذلك التعذيب ومشاهد تلك الوحشيّة ستمرّ دون ردّات فعلٍ لدى أهل السنة؟! ومن أقربها ما حصل في البحرين، فما حصل في البحرين لم يكن ليحصل لولا الخوف (الذي هو في محلّه) من تلك النفسية الحاقدة التي رأيناها في مناطق عديدة، فلو افترضنا أن شيعة البحرين كانوا يطالبون بحق مشروع لهم، كيف ينتظرون من أهل السنة أن يُمكّنوهم منه، وهم يرون مقدار التعبئة بالحقد والكراهية التي تفيض بها مشاعر متطرّفي الشيعة، خاصة أولئك الذين تأثّروا بمتطرّفي إيران؟! فالحق أن تطرّف بعض شيعة إيران لم يقف عند مجرّد كونه تطرّفًا شيعيًّا، بل تجاوزه إلى العنصرية الفارسية والشعوبية التي تدين ببغض العرب، حتى تأذّى منها شيعة العرب في العراق ولبنان، كما تأذّى بهم أهل السنة بها. لكني أعود وأقول: إن هذه العنصرية الفارسية وذلك التطرف الشيعي لا يجيز لنا ذلك كله أن نصفهم بأنهم مجوس، ولا تعييرهم بالفارسية؛ فذلك الوصف الكاذب والتعيير الجاهلي تطرّفٌ في الجانب الآخر. ولا يمكن لأهل السنة -وهم الأولى بالاعتدال- أن يتصوّروا أن الانتصار الحقيقي على الشيعة يمكن أن يتم بالحيف والأحكام الجائرة. ولا نريد أن نسمح لتطرّف بعض الشيعة أن يقودنا لتطرّف مقابل، فهذا أول هزائمنا أمامهم، وإذا سكتنا عنه فقد لا يكون آخرها؛ لأن هذا الحَيف قد يكون سببًا لتخلي الله تعالى عنا، كما زهدنا في التزام شرعه بإقامة العدل. ولئن كنت سأدع متطرفي الشيعة لعقلائهم، فلمن سأدع متطرفينا؟! وإذا خشي عقلاء الطائفتين من الحديث في زمن التأزّم الطائفي، خوفًا من الاتهام بالميل للخصوم، فكيف ومتى سنطفئ نار الطائفية التي لن ينتفع بها أحد، وسيبلغ ضررها الشيعة والسنة؟! وهكذا يغيب صوت المعتدلين من الشيعة، كما غاب صوت المعتدلين منا، وهكذا يفعل التطرف دائمًا! فإلى أن يصبح لصوت الاعتدال فينا مكانٌ تصبحون على خير!!