جاسر عبد الله الحربش - الجزيرة السعودية لم يمر وقت طويل بعد على حوادث وفيات متعددة أدى إليها الاحتساب المسرف في شكوكه وتشدده ومع ذلك لا تصل إليه يد التأديب المعهودة مع الجنايات الأخرى. لا يزال عالقا في الذاكرة قصة ذلك الرجل الذي قتل كما قيل بإصابة في غير مقتل (ركلة في الرأس أخرجت مخه من جمجمته). إذا كان الرأس يعتبر غير مقتل فلماذا يلبس الفرسان والجنود خوذا حديدية على رؤوسهم؟. قيل آنذاك أن الرجل كان وبعض أهل بيته يتاجرون في المخدرات وأنه قاوم رجال الحسبة مقاومة شديدة أدت إلى وفاته على يد محتسب متطوع في حالة دفاع عن النفس، ولم يكن ذلك المحتسب مسجلا رسميا في سلك هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الويل لنا جميعا في الدنيا والآخرة إذا كان من يقاوم رجل الحسبة يمكن أن يموت ركلا أو طعنا أو ضربا أو حتى كمدا أثناء التوقيف الاحترازي على الشبهة. شخصيا، لم أسمع حتى الآن ماذا حل بالرجل أو الرجال الذين مات ذلك الإنسان البائس أثناء مقاومتهم. القصة كلها غائمة في بعض أمورها كليا وفي أمور أخرى جزئيا. سمعت مثلكم فقط عن الحكم المعتمد على أن القتيل مات عن غير قصد لأن الركلة القوية بالقدم على الرأس لم تكن إصابة في مقتل رغم تهشم الجمجمة وخروج الدماغ والوفاة الفورية. مازلت وكثيرون مثلي غير مصدقين ولا مرتاحين للحكم ولا للتعليل. مازالت عالقة بالذهن أيضا قصة امرأتي المدينة اللتين طوردتا احتسابا وعلى الشبهة في سيارتهما حتى اصطدمتا بشجرة وانتقلتا إلى الدار الآخرة. قد قيل ما قيل فيهما آنذاك إن صدقا وإن كذبا فما احتيالك في قول إذا قيل. لكن ومهما قيل يبقى السؤال عن إمكانية مطاردة سيارة الاحتساب لسيارة شبهة بسرعة تكفي لإحداث الضرر المؤدي إلى الوفاة. هذه الإمكانية هل هي حق مكتسب بنص القانون للاحتساب أم تطبيق اجتهادي فردي خاطئ قد يقوم به محتسب هنا ويرفضه محتسب آخر هناك؟. أظنها اجتهاد فردي مسرف في الشك والاحتساب ، ولكن ماذا حل برجال الحسبة المسئولين عن تلك الحادثة؟. في ذات المنطقة، المدينةالمنورة حصلت حوادث كثيرة سببها الإسراف في تشدد الاحتساب، ومنها قصة الرجل الذي طورد وأوقف هو وزوجته وفرق بينهما بتهمة الاختلاء المحرم. شاعت القصة في حينها في سائر الأرجاء وتم تداولها في المنتديات بالأسماء والأنساب، ثم اتضح لاحقا أن المطاردين زوجين على سنة الله ورسوله. ماذا حل برجال الحسبة المتسببين في تلك الحادثة؟ هل نالوا عقابهم الرادع وأعطيت للزوجين المقهورين احتسابا حقوقهما ، أم مازال المحتسبون يمارسون الاحتساب على هواهم ؟. في شرق الرياض طورد فتى بسرعة جنونية من قبل محتسبين حتى ارتطم بخرسانة، وفي تبوك احترقت سيارة مطاردة بنفس الطريقة ومات فتى وفتاة ، وفي الدمام ضرب رجل من قبل محتسبين أمام امرأته وأطفاله والمتفرجين في مركز تسوق مفتوح لأن شيئا ما لم يعجبهم في مظهر أو تصرفات تلك الأسرة. القصص كثيرة جدا وما زالت مستمرة من الطائف ونجران والقصيم وغيرها، والآن تركزت في مدن الشمال، كأنه موسم هجرة الاحتساب إلى الشمال. بالأمس القريب أخرج محتسب شاب من هيئة مدينة حائل سكينا من جيبه وأغمدها مرتين في جسد مواطن كان في موقع الدفاع عن زوجته أمام ثورة المحتسب. ذلك المحتسب أحس بالفتنة وثارت الدماء والهرمونات في عروقه لأنه أمعن النظر في عيون امرأة ولم يغضض طرفه كما هو مأمور به شرعا. أمر المرأة بتغطية عينيها لأنهما تثيران الفتنة، ويقصد بالتأكيد افتتانه هو لأن الآخرين بالسوق لم يعانوا من عيون النساء معاناة ذلك المحتسب المحدق فيما حواليه. إذا كان الشاب المحتسب يعرف أن غرائزه فوارة إلى هذا الحد، لماذا حمل سكينا في جيبه قبل أن يخرج في غزوته الاحتسابية؟. هل كان ذلك لتأكيد عزمه وجديته على ضبط الأمور أم لتنفيس غرائزه المكبوتة؟. قيل في المأثور من باب الدعاية للخمار هذا الشعر: قل للمليحة في الخمار الأسود ماذا فعلت بزاهد متعبد قد كان شمر للصلاة ثيابه حتى وقفت له بباب المسجد ردي عليه صلاته وصيامه لا تقتليه بحق شرع محمد كان أسلافنا- رحمهم الله- يتعففون ويتلطفون بذوق وأدب. الآن جاء من أصلابهم محتسبون يركلون بالقدم ويطعنون بالسكين المخبأة في الجيب قبل الخروج في مهمة الاحتساب. لا نقول إلا حسبنا الله على هذا النوع العنيف من الاحتساب.