الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولية مجتمعية فرضها الدين على المسلمين رجالا ونساء ، قبل أن تكون وظيفة إدارية لأفراد يتقاضون مرتبات مقابل ما يقومون به ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) ، وهذا يخرج الأمر بالمعروف من حيز الوظيفة الإدارية إلى المسؤولية المجتمعية، فكل مسلم ومسلمة يقوم به في دائرة ما يحمل من المعرفة والعلم ، أو يرجع فيه إلى أهل الذكر وأهل الاختصاص . لكن ما المنكر وما حدوده وفيمَ يكون ؟ وهل هو ذلك الذي حدده الشرع وبينه ؟ أم هو ذلك الذي يجري التزيد فيه ويحدده رجل الهيئة ويعالجه كيفما أراد ؟ كلنا يعلم أن المنكر الذي لم يحدده الشرع يختلف موقف الناس منه ، فما يراه بعضهم منكراً قد لا يراه بعضهم الآخر كذلك ، كما أن بعضهم يجتهدون فيجعلون بعض الأمور من المنكر اعتماداً على العُرف كمسألة كشف المرأة عن وجهها فمع أنها مسألة خلافية إلا أنهم يجعلونها منكراً، لأن غطاء الوجه من القضايا التي أقرها العُرف لا الشرع . وقيسوا على ذلك أموراً كثيرة ربما يأتي على رأسها جلوس امرأة مع رجل في مكان عام ، فإن هذا مدعاة للشك حتى لو كانت أخته أو أمه أو جدته ، أو ركوبها مع رجل في سيارة ، مما يثير ريبة بعض رجال الهيئة فيهما وتجري مساءلتهما ، فأيّما امرأة ركبت مع رجل في سيارة ( عدا السائقين ) فإنهما عرضة للمساءلة التي أدت في حالات كثيرة عند امتناع الرجل عن الوقوف ، إلى مطاردة السيارة ووقوع ضحايا كما ورد في عدد من الصحف منذ أمد ، لا فرق في ذلك بين مطاردة رجال الهيئة لهم أو فرارهم من تلقاء أنفسهم بمجرد رؤية سيارة الهيئة نتيجة للرعب الذي ينتابهم ، أيا كان نوع العلاقة التي تربط الرجل بالمرأة التي معه . ومع أن المرأة منعت من قيادة السيارة فإنهم لا يمانعون من ركوبها مع سائق أجنبي حتى خارج المدن ، لكنها إن ركبت في المقعد الأمامي نتيجة لازدحام السيارة بالنساء والأطفال ، فإنها عرضة للإيقاف والمساءلة ، فلا بأس من أن تجلس بمفردها معه ساعات طوال في المقعد الخلفي ، لكن لا يجوز لها وفي وجود عدد من المرافقات أن تجلس في الكرسي الأمامي . وهذه واقعة حدثت لبعض السيدات اللاتي أخبرنني عما حدث لهن عندما خرجن برفقة السائق من فعاليات الجنادرية وللتأكد من ذلك يمكن الدخول على الموقع : http://mojil.net/site/?p=11792 إن علاقة المرأة بالرجل في مجتمعنا علاقة شائكة يحيط بها كثير من الريب والظنون ، وهنالك من يغالي في التحجير والتضييق عليهما ، ولهذا كانت النظرة إلى هذه العلاقة أساس كثير من التصرفات الملتبسة التي تمارس ضدهما . فلم تعد المرأة تدري كيف ومتى وأين توقف لمساءلتها عمن يصحبها في السيارة أو يجلس معها في مكان عام ؟! وهل يتوجب عليها أن تحمل دفتر العائلة لكي تثبت أن الرجل الذي معها هو زوجها أو شقيقها أو ابنها ؟ وكيف يمكن أن تثبت ذلك ودفتر العائلة لا يحمل صورتها ، وبعض السيدات لم يستخرجن أصلا بطاقة هوية ؟ وهل يعترف رجل الهيئة بجواز السفر ؟ وماذا إذا لم يكن لديها جواز سفر ؟ والأمر نفسه ينطبق على الرجل الذي يتوجب عليه أن يحضر كل إثباتاته لكي يبرئ نفسه من تهمة تلصق به بناء على اشتباه ، والسبب في ذلك هو أن بعض من يتصدون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتبنون فكرة خطيرة تقوم على أن الأصل في أحوال الناس هو سوء السلوك ، وهذا ضد القاعدة التي تقول : " إن ما يكون في مجتمع المسلمين محمول على الصحة والسلامة إلى أن يقوم دليل الفساد" . ولا شك في أن هذا الاعتقاد له آثار سلبية على أمن المجتمع وسلامته ، ولا تكف الصحف عن إمدادنا بأخبار من هذا النوع ، منها ما ذكرته جريدة عكاظ من أن شرطة العاصمة المقدسة تحقق في شكوى مواطن يتهم رجال الهيئة بإيقافه أثناء إعادته أم زوجته (72 عاماً) من أمام جامعة أم القرى بعد أن مُنعت من الدخول مع ابنتها ، وكانت شهادة تحفيظ القرآن لإحدى الفتيات هي المنقذ لمواطن آخر وهو يقل شقيقته من الحرم النبوي ، بعد أن طالبه رجال الهيئة بإبراز بطاقة العائلة – التي لم يكن يحملها - لإثبات صلته بالتي تركب معه !! وتعتبر دعوة سماحة مفتي المملكة رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى الرفق بالمخطئين والتعامل بالأسلوب الرقيق في الأمر والنهي ، في كلمته خلال افتتاح ندوة الحسبة مهمة للغاية إذ قال : " ارحموا أهل المعاصي الذين استحوذ عليهم الشيطان ، وانصحوهم وخذوا بأيديهم ، لكن ليس بالشماتة والفرح فيهم ، وأن يكون الآمر بالمعروف مصلحاً لا متسلطاً ، وذا حلم وصبر، ولا ينتصر لنفسه ، ويتحمل كل الأمور، ولا يغير المنكر بمنكر أكبر منه " ! وتأكيده بأن " جهاز الأمر بالمعروف ليس معصوماً من الخطأ والواجب التناصح ، وإذا وجد الخطأ لا بد أن يصلّح بالمعروف لا بالشماتة ، والانتقاص من الجهاز أو الطعن فيه ، أو تلمس أخطاء الآمرين بالمعروف ، ومن وجد خطأ عليه الاتصال بالمسؤولين لإصلاحه " ويدخل ما نادى به سماحة المفتي من قوله " ارحموا أهل المعاصي الذين استحوذ عليهم الشيطان " في مسألة الستر على المخالف حتى لا يكون الضرر الذي يقع عليه أكبر من المنكر الذي وجد فيه ، وينبغي ألا ننسى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا جُردا من معناهما الإيماني وبعدهما القيمي استحالا صداً عن المعروف وتثبيتاً للمنكر من حيث أريد إصلاحه ومحاربته ، ولهذا قال عليه السلام ( وإنّ منكم لمنفرين) . وربما لو علم المتحمسون من أعضاء الهيئة مسبقاً بنتائج عدم تقديمهم الستر لآثروا الاكتفاء بإسداء النصح والإرشاد ، ولعلنا ما زلنا نذكر كيف أدى القبض على فتاتين كانتا في سيارة وليس في منزل دعارة ، إلى قتلهما من قبل شقيقهما ، حيث عولج المنكر بمنكر أكبر منه . أما قول سماحة المفتي: ( وأن يكون الآمر بالمعروف مصلحاً لا متسلطاً ، وذا حلم وصبر، ولا ينتصر لنفسه ، ويتحمل كل الأمور، ولا يغير المنكر بمنكر أكبر منه ) ! فلا شك أن النزعة السلطوية لدى بعض رجال الهيئة إشكالية كبرى جعلت الناس يتوجسون من تحول عملهم إلى سلطة تراقب وتقمع وتحاسب وتعاقب ، على الرغم من أن الأصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أنه وظيفة من وظائف المجتمع المدني التي لا تستخدم أساليب السلطة كالشرطة مثلا ، لهذا ينبغي تحرير عمل الهيئة من النزعة السلطوية التي تقبض على الناس وتحاسبهم وتحاكمهم مستعملة وسائل العنف ، مصطحبة رجال الشرطة لأن استعمال اللين والقول المعروف ومخاطبة الوجدان لا يستدعي أن يحتمي رجل الهيئة بالشرطة ، لهذا صار يعتقد بعض الناس أن هذه النزعة السلطوية عدوة لهم وحائلة دون الالتزام بالتفسير المرن للدين ومنحازة إلى التفسير المتشدد! إنه إذا وقع شيء مما حذر منه سماحة المفتي بقوله : " وإذا وجد الخطأ لا بد أن يصلّح بالمعروف لا بالشماتة ، والانتقاص من الجهاز أو الطعن فيه ، أو تلمس أخطاء الآمرين بالمعروف ، ومن وجد خطأ عليه الاتصال بالمسؤولين لإصلاحه " فمرد ذلك أن بعض الناس صاروا يتوجسون من ممارسات بعض أفراد الهيئة ، وقد كثر الحديث عن أهمية إيجاد آليات لضبط عملهم ، لا تهدف إلى العقوبات والزجر والتنقيب في ضمائر الناس بقدر ما تسعى إلى ضبط السلوك العام بالرفق واللين . وكان الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد أوضح " أن الهيئة وضعت خطة إستراتيجية تستهدف التغيير الشامل في الأساليب ، والأداء لمنسوبيها مع المحافظة على الثوابت ، التي قامت عليها الدولة " . وما دامت الهيئة بصدد اجتراح خطة إستراتيجية تستهدف التغيير الشامل في الأساليب فإن مما يتبادر إلى الأذهان هو : مامدى مشروعية محاسبة الناس على مجرد الاشتباه ومحاكمة الضمائر؟ أوليس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما ظهر من أحوال الناس لا فيما استتر ؟ وماذا عن التدرج والمرحلية ورعاية الأوليات وهي من الأصول المهمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وفيما إذا تجاوز المحتسب في احتسابه ، هل هنالك من احتساب عليه ، بمعنى ألا يكون فوق الاحتساب وألا يكون الباب مفتوحا له على مصراعيه ليعمل ما يريد ؟ وما منزلة حسن الظن بالناس وتجنب الشك والتجسس ؟ إن عمر بن الخطاب وهو خليفة المسلمين عندما تسوّر جداراً ليطلع على أناس يشربون الخمر لامه بعض المسلمين على ذلك لأنه قام بعمل أكبر من المنكر الذي كان يريد علاجه وهو: التجسس المحرم شرعاً ( ولا تجسسوا ) ، وتسلق الحائط ولم يستأذن بطرق الباب ، وذلك أيضا لا يجوز شرعا ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ) أي تستأذنوا. وماذا عن الرجوع عن الخطأ والاعتذار ممن أسيء الظن بهم ؟ وذلك من الأمور التي ينبغي تطبيقها من قبل أعضاء الهيئة ، وفي هذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري ( فلا يمنعك قضاء قضيته اليوم فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل ). أخيراً إنه يشترط للقيام بالأمر بالمعروف أن يكون القول أو الفعل مجمعاً على كونه منكراً ، وهذا الاتفاق يخرج ما اُختلف فيه من أمر الاحتساب؛ إذ لا إنكار فيما وقع فيه خلاف معتبر ، بل لا بدّ أن يكون منكرا بميزان الشرع حتى لا يكون ذلك مدعاة لتجاوز ما جعله الشارع حرماتٍ لا ينبغي انتهاكها أبدا كحرمات النفس والأموال والأعراض والدماء .