1 وكما لجأ والد ليلى إلى الخليفة مروان بن الحكم كي يكف عنهم ما كان يلحق بهم من أذى لتغزل قيس بن الملوح بابنتهم لجأ والد لبنى من قبله إلى الخليفة معاوية بن أبي سفيان ليضع حدا لتغزل قيس بن ذريح بابنتهم بعد أن طلقها استجابة لطلب والده، وكما تم إهدار دم قيس بن الملوح تم إهدار دم قيس بن ذريح قبله، قال ابن قتيبة في خبره عن عدي ورواه عمر بن شبة أيضا: إن أبا لبنى شخص إلى معاوية فشكا إليه قيسا وتعرضه لابنته بعد طلاقه إياها، فكتب معاوية إلى مروان أو سعيد بن العاص يهدر دمه إن ألم بها وأن يشتد في ذلك، فكتب مروان أو سعيد إلى صاحب الماء الذي ينزله أبو لبنى كتابا وكيدا، ووجهت لبنى رسولا قاصدا إلى قيس تعلمه وتحذره، وبلغ أباه الخبر فعاتبه وتجهمه وقال له: انتهى بك الأمر إلى أن يهدر السلطان دمك، فقال: فإن يحجبوها أو يحل دون وصلها مقالة واش أو وعيد أمير فلن يمنعوا عينيَّ من دائم البكا ولن يذهبوا ما قد أجن ضميري إلى الله أشكو ما ألاقي من الهوى ومن حرق تعتادني وزفير واللجوء إلى السلطان لكف أذى الشاعر العاشق وصده عما يفعل إجراء يتكرر في قصص العشاق فكما نجدها في قصة سحيم وقيس بن ذريح وقيس بن الملوح نجدها كذلك في قصة عاشق رابع هو جميل بن معمر أو جميل بثينة حين ينسب لمن يحب في إشارة يمكن لها أن تحمل على أنها إلماح إلى نسب جديد يخالف من خلاله العاشق مقتضيات نسبته على ابيه وما يمكن أن تعصمه به تلك النسبة الأبوية من فيما لا تقره الأعراف والقيم، روى صاحب الأغاني عن أبي عمرو وإسحاق بن مروان قال: عشق جميل بثينة وهو غلام، فلما بلغ خطبها فمنع منها فكان يقول الاشعار، حتى اشتهر وطرد، فكان يأتيها سرا ثم تزوجت فكان يزورها في بيت زوجها في الحين خفية إلى أن استعمل دجاجة بن ربعي على وادي القرى فشكوه إليه فتقدم إليه ألا يلم بأبياتها وأهدر دمه لهم إن عاود زيارتها، فاحتبس حينئذ، وأوشك ذات مرة أن ينتهي قتيلا حين ترصده رجال بثينة بجماعة من بضعة عشر رجلا وهو واقف يتحدث على بثينة ووثبوا عليه وهو ينشدها: فليت رجالا فيك قد نذروا دمي وهموا بقتلي يا بثين لقوني وكاد أن يقتل مرة أخرى حين واعد ليلى لولا نصح بعض الفتيان له واحتيالهم حين أفسدوا ما كان يخطط له أهل بثينة من قتله وهو متلبس بزيارة ليلى، يروي صاحب الأغاني عن الهيثم بن عدي قال: زار جميل بثينة ذات يوم، فنزل قريبا من من الماء يترصد أمة لها أو راعية، فلم يكن نزوله بعيدا من ورود أمة حبشية معها قربة، وكانت به عارفة وبما بينه وبينها، فسلمت عليه وجلست معه، وجعل يحدثها ويسألها عن أخبار بثينة ويحدثها بخبره بعدها ويحملها رسائله، ثم أعطاها خاتمه وسألها دفعه إلى بثينة وأخذ موعد عليها، ففعلت وانصرفت إلى أهلها وقد أبطأت عليهم فلقيها أبو بثينة وزوجها وأخوها فسألوها عما أبطأ بها، فالتوت عليهم ولم تخبرهم وتعللت، فضربوها ضربا مبرحا، فأعلمتهم حالها مع جميل ودفعت إليهم خاتمه، ومر بها في تلك الحال فتيان من بني عذرة فسمعا القصة كلها وعرفا الموضع الذي فيه جميل، فأحبا أن يثبطا عنه فقالا للقوم: إنكم إن لقيتم جميلا وليست بثينة معه ثم قتلتموه لزمكم في ذلك كل مكروه، وأهل بثينة أعز عذرة، فدعوا الأمة توصل خاتمه إلى بثينة، فإذا زارها بيتموهما جميعا، قالوا: صدقتما لعمري إن هذا هو الرأي، فدفعوا الخاتم إلى الأمة وأمروها بإيصاله وحذروها أن تبلغ بثينة بأنهم علموا القصة ففعلت، ولم تعلم بثينة بما جرى، ومضى الفتيان فأنذرا جميلا، فقال: والله ما أرهبهم وإني في كنانتي ثلاثين سهما والله لا أخطأ كل واحد منها رجلا منهم وهذا سيفي والله ما أنا به رعش اليد ولا جبان الجنان، فناشداه الله وقالا: البقية أصلح فتقيم عندنا في بيوتنا حتى يهدأ الطلب ثم نبعث إليها فتزورك وتقضي من لقائها وطرا وتنصرف سليما غير مؤبن، فقال أما الآن فابعثا إليها من ينذرها، فأتياه براعية لهما وقالا له: قل بحاجتك، فقال: أدخلي إليها وقولي لها: إني أردت اقتناص ظبي فحذره جماعة اعتوروه من القناص ففاتني الليلة، فمضت فأعلمتها ما قال لها فعرفت قصته وبحثت عنها وعرفتها، فلم تخرج لزيارته تلك الليلة ورصدوها فلم تبرح مكانها ومضوا يتنصتون أثره فرأوا بعر ناقته فعرفوا أنه قد فاتهم. وحين لم تفلح شكوى أهل بثينة للسلطان في رده عن ابنتهم ولم يردعه إهدار دمه عن المضي فيما هو فيه مستندا إلى جرأته وقوة قبيلته التي كانت قبيلة بثينة تتهيب أن تصطدم بها لم يجدوا بدا من اللجوء إلى السلطان مرة أخرى ليضع حدا لما بات يلحقه بهم الشاعر العاشق من العار، يقول الشيباني: إن السلطان أهدر دم جميل لرهط بثينة إن وجدوه غشى دورهم، فحذرهم مدة، ثم وجدوه عندها فأعذروا إليه وتوعدوه وكرهوا أن ينشب بينهم وبين قومه حرب في دمه، وكان قومه أعز من قومها، فأعادوا شكواه إلى السلطان، فطلبه طلبا شديدا فهرب إلى اليمن فأقام بها مدة. وانتهى العشق بجميل إلى أن يكون مطاردا من أهل بثينة ملاما من أهله يردد ابن عمه روق على مسامعه: إنك لعاجز ضعيف في استكانتك لهذه المرأة وتركك الاستبدال بها مع كثرة النساء ووجود من هو أجمل منها، إنك منها بين فجور أرفعك عنه أو ذل لا أحبه لك أو كمد يؤديك إلى التلف أو مخاطرة بنفسك لقومها إن تعرضت لها بعد إعذارهم إليك وإن صرفت نفسك عنها وغلبت هواك فيها وتجرعت مرارة الحزم حتى تألفها وتصبر نفسك عليها طائعة أو كارهة ألفت ذلك وسلوت، ولا يجد جميل حين يسمع ذلك اللوم وتلك النصيحة إلا أن يقول لابن عمه روق وهو يبكي: يا أخي لو ملكت اختياري لكان ما قلت صوابا ولكني لا أملك الاختيار ولا أنا إلا كالأسير لا يملك لنفسه نفعا، ويدرك جميل أنه أصبح مثار شفقة للأصدقاء من أهله والخصوم من أهل بثينة فيقول: وأنت التي إن شئت كدرت عيشتي وإن شئت بعد الله أنعمت باليا وأنت التي ما من صديق ولا عدا يرى نضو ما أبقيت إلا رثى ليا وإذا كان العشق قد انتهى بجميل أن يكون مشردا لا يهنأ بطعام أو شراب حتى مات غريبا في مصر وانتهى بقيس بن الملوح إلى أن يكون مجنونا مشردا في الفيافي والقفار فقد انتهى بقيس بن ذريح إلى نهاية مشابهة حين غدا مريضا شاكيا باكيا يلصق خده بالأرض ويحثو على رأسه التراب وينكفئ على آثار خف بعير لبنى يقبله ويمرغ وجهه في الرمل حتى «استطير عقله وذهب به ولحقه مثل الجنون» ومات ليست ببعيدة عن ميتة قيس بن الملوح محققا بذلك ما حذره منه محبوه من أنه بما أسلم له نفسه من العشق سوف ينتهي إلى الردى ليترك للرواة بعده قصة من قصص مصارع العشاق. 2 تتشابه قصة القيسين العاشقين قيس بن الملوح وقيس بن ذريح كثيرا وتوشك كثير من المواقف التي مرا بها أن تتطابق ويروي الرواة أبياتا لأحدهما فيذهب آخرون إلى أنها للآخر حتى تكاد أن تكون قصة قيس بن الملوح امتدادا لقصة قيس بن ذريح وهو امتداد يبلغ بالقصة مداها من حيث تكريس الأنموذج للخاتمة السوداء التي ينتهي إليها العاشق حين يفضي به عشقه إلى الهلاك. ويتشابه دور الآباء في القصص التي تروى عن جميل بثينة وقيس بن الملوح وقيس بن ذريح، وإذا كان والد قيس بن ذريح قد أجبره على تطليق لبنى فإن والدي بثينة وليلى هما من حالا بينهما وبين من أولعا بهما حين رفضا تزويجهما بهما، كما أن آباء كل من بثينة ولبنى وليلى هم من يستعينون بالحاكم أو الأمير أو الخليفة ليستصدروا تفويضا بإهدار دم الشعراء العشاق الثلاثة على نحو تبدو فيه الخلافة أو الإمارة امتدادا للسلطة الاجتماعية المتمثلة في الآباء الغاضبين والقبيلة التي باتت تشعر أن شرفها قد تدنس بما يقدم عليه هؤلاء العشاق من فعل وبما يشيع عنهم من قول وهو ما يفسر لنا ما انتهت إليه الشكوى من منح هؤلاء الآباء التفويض الذي يعطيهم الحق في قتل العشاق الذين شببوا ببناتهم إن لم يكفوا عما يفعلونه من تعرض لبناتهم. التداخل بين السلطتين، سلطة الأبوة وسلطة الإمارة يمكن لنا أن نتبينه حين يصبح والد ليلى أميرا لها في قوله: ألا حجبت ليلى والى أميرها علي يمينا جاهدا لا أزورها وأوعدني فيهم رجال أبوهم أبي وأبوها خُشِّنت لي صدورها على غير شيء غير أني أحبها وأن فؤادي عند ليلى أسيرها والرجال الذين خشنت صدورهم عليه هم الآباء الذين فيهم أبوها وأبوه وهو ما يؤكد أن ثمة سلطة أبوية يشعر العاشق أنها وراء المأساة التي يعاني منها، وإذا لم يكن والد قيس بن الملوح مسؤولا عما انتهى إليه فإن والد قيس بن ذريح يمكن له أن يشكل الوجه المستتر له وهو الوجه الذي يمكن له أن يفسر لنا ضم قيس بن الملوح والده إلى السلطة التي خشن صدرها عليه وحالت بينه وبين من يهواها. مقابل الآباء الذين يقفون في وجه العشق والعشاق ويصدونهم عمن تعلقت قلوبهم بهن يظهر جيل الأبناء ممثلا في جميل بثينة وقيس بن ذريح وقيس بن الملوح ولبنى وليلى والفتيات اللواتي يحففن بهن والفتيان الذين تتقطع قلوبهم حسرة على ما يرونه من حاله هؤلاء العشاق، وهو جيل يخرج الفتيان منه علنا على ما يرتضيه آباؤهم حين يكونون قادرين على ذلك الخروج متحملين عواقبه الوخيمة، أو تخرج فتياته سرا حين يدركن أنهن نسوة مستضعفات فيواصلن من فتن بهن من الرجال وإذا ما خشين على أنفسهن أو على من يهوين أظهرن الجفوة وصددن خوف الفضيحة أو العقاب. ولعل مما يعزز الرابط المشترك بين جيل الأبناء ذلك الإلحاح الذي نجده في شعر قيس بن الملوح وتجربته، التي تجيء تتويجا لتجربتي جميل وقيس بن ذريح، على الطفولة المشتركة واستحضار مرعى الغنم والأرض الخلاء التي لم تكن توفر الفرصة للالتقاء بعيدا عن أعين الأهل وترمز إلى ما يمكن أن يكون قطيعة أو مسافة رمزية تميز مكان التعارف عن مساكن الحي حيث تستحكم الأعراف والقيم، بل تشكل عودة إلى حضن الطبيعة الأم حيث الماء والعشب والبئر، كما هي عودة إلى الفطرة الإنسانية والبراءة التي تتجانس مع الطفولة التي كانا عليها وتتجسد في أوضح صورها حين يتلمسها قيس بن الملوح في البهم الذي كانا يرعيانه معا: تعلقت ليلى وهي ذات ذؤابة ولم يبد للأتراب من ثديها حجم صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم 3 لم يعد بإمكان مجتمع كان رجاله يتهيأون للغزو والمشاركة في الفتوحات وما يترتب على ذلك من خلو البيوت من الرجال القيمين عليها أن يترخص فيما كانت العرب تترخص فيه من قبل حين كانت مجالسة الرجال للنساء أمرا مقبولا بما يستتبعه من استشعار لأنس الحديث معهن وتغزل بهن واستطراد لذكر ما قد يحدث من اختلاء بهن ومطارحتهن الغرام، كما ان القيم الأخلاقية التي حددت العلاقة بين الرجال والنساء وفق قواعد وتشريعات توضح ما هو حلال منها وما هو حرام لم تكن لتتقبل باستمرار ما كانت العرب تتقبله في جاهليتها من علاقات لم تكن تتوقف عند حدود العلاقات المكفولة بالزواج بل تمضي لما هو أكثر توسعا من ذلك على نحو يجعلنا نتفهم العلة وراء الإلحاح على تحريم الزنا وتغليظ العقوبة لمن يرتكبه إضافة إلى سد الذرائع التي يمكن أن تؤدي إليه كالخلوة والنظر والخضوع بالكلام. تبلور في القرن الأول ما يشبه القطيعة مع ما كانت العرب تترخص فيه، وإذا كانت حياة المدن والحواضر قد أتاحت لمن يعيش فيها من الميسورين حياة بديلة لعبت فيها الجواري والقيان من ملك اليمين دورا كبيرا خلق شيئا من التوازن بين صرامة الأحكام المحددة للعلاقات بين الرجال والنساء وما كانت العرب تترخص فيه من علاقات لا تحده أطر الحياة الزوجية، مما لم يكن متاحا لبادية العرب التي كانت تعاني من شظف العيش في تلك الحقبة. هذه القطيعة التي كرستها ظروف تجييش المجتمع وإعداده للغزو والفتوحات هي ما يمكن أن يفسر لنا تلك القصة التي رواها ابن حدرد عن ابيه قال: كنت في جيش خالد بن الوليد التي أصاب بها بني جذيمة إذا فتى منهم مجموعة يده إلى عنقه برمة فقال لي: يا فتى هل أنت آخذ بهذه الرمة فمقدمي إلى هؤلاء النسوة حتى أقضي إليهن حاجة ثم تصنعون ما بدا لكم؟ فقلت: ليسير ما سألت، فأخذت برمته فقدمته إليهن، فقال: اسلمي حبيش على بعد العيش، ثم قال: أريت إذ طالبتكم فوجدتكم بحلية أو ألفيتكم بالخوانق ألم يك حقا أن ينول عاشق تكلف إدلاج السرى والودائق فلا ذنب لي قد قلت إذا أهلنا معا أثيبي بود قبل إحدى الصفائق أثيبي بود قبل أن تشحط النوى وينأى الأمير بالحبيب المفارق فإني لا سر لدي أضعته ولا راق عيني بعد وجهك رائق على أن ما ناب العشيرة شاغل عن اللهو إلا أن يكون توامق فقالت: وانت فحييت عشرا وسبعا وترا وثمانية تترى، ثم قدمناه فضربنا عنقه، قال ابن اسحاق: فحدثني أبو فراس عن أشياخ شهدوا مع خالد بن الوليد قالوا: فلما قتل قامت إليه فما زالت ترشفه حتى ماتت عنده. وإذا كانت هذه الرواية قد حفلت بنهاية الفتى العاشق على يد جندي في سرية يقودها خالد بن الوليد فإن رواية أخرى للقصة نفسها آثرت بسط الحديث عن بداية عشق الفتى لتلك الفتاة وتنتهي حين يهجم عليهما خالد بن الوليد يوم غميصاء «وهما على أشد ما كانا عليه من الهوى والصبوة» تقول الرواية: قال الذي أخذه: فضربته ضربة قطعت منها يده وعنقه فلما رأته سقط قالت: أئذن لي أن أجمع بعضه إلى بعض فأذنت لها فجمعته وجعلت تمسح التراب عن وجهه بخمارها وتبكي ثم شهقت شهقة خرجت معها نفسها. ثم رواية ثالثة ورابعة تستحضر النبي محمدا صلى الله عليه وسلم في أحداثها حينما ينقلون له خبر ذلك الفتى غير أن الروايتين تتناقضان في تحديد موقف النبي مما نقل له، فبينما تقول واحدة أنه «ضحك حنى بدت نواجذه» تؤكد الأخرى أنه قال: «أما فيكم رجل رحيم» ذم الهوى 435439 والروايات الأربع لا تقدم تفسيرا لقتل ذلك الفتى كما أنها لم تثر تساؤلا عند من رواها حول جواز قتل رجل لم يرد في القصة حسب رواياتها الأربع ما يفيد بقتاله للسرية التي كان يقودها خالد بن الوليد فضلا عن أنه كان أسيرا من المفترض أن يكون مشمولا برحمة دين لا يجيز قتل الأسرى. وجين يتعلق الأمر بالنبي صلى الله عليه وسلم فإن الروايتين اللتين يرد فيهما ذكره حين يتم نقل خبر مقتل الفتى وموت الفتاة تتناقضان حيث يضحك في الأولى حتى بدت نواجذه ويتساءل في الأخرى تساؤل المنكر لما حدث: أما فيكم رجل رحيم؟ ثم لا يحفل من رووا القصة ومنهم ابن الجوزي بتحقيق أي الروايتين الصحيحة وكان حري بهم أن يفعلوا ذلك ما دام الأمر يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم لولا أن من رووا القصة لم يكن يعنيهم منها إلا أن ثمة عاشق أرداه عشقه حين صادف مروره على الفتاة التي علق بها وصول سرية خالد بن الوليد والروايات الأربع تحتفي بقصة حبه لحبيش ورغبته في أن يراها ويحادثها قبل قتله كما تحتفي بالحوار الذي يدور بينه وبينها والأبيات التي يتحدث فيها عن وجده بها كما تحرص على رصد أثر قتله على الفتاة التي تلحق به فتموت وهي تجمع أوصاله وتمسح التراب عن وجهه وتبكي عليه، ثم لا تحفل بعد ذلك بشيء من أخبار سرية خالد بن الوليد التي خرجت إلى بني جذيمة وكأنما خالد بن الوليد لم يخرج إلا لكي يقتل هذا الفتى وينهي حياة الفتاة ويضع حدا لقصة الحب بينهما. ومن شأن ذلك كله أن يحمل القصة، بما تتضمنه من تداخل بين أعمال السرية التي كانت متوجهة للغزو وحكاية الفتى العاشق الذي يموت مقتولا وتموت الفتاة التي يعشقها حزنا وكمدا عليه، معنى لا يخلو من الدلالة على التعارض بين حياة مجتمع يتهيأ للجهاد وفق أخلاقيات لا تترخص فيما كانت تترخص فيه العرب من علاقات بين الرجال والنساء وما يمكن أن تشكله تلك الأخلاقيات من قطيعة جسدتها تلك الضربة التي قتلت الفتى بعد أن فصلت رأسه ويده عن جسده وكأنما هي بذلك تفصل الرأس المسكون بالتفكير في المرأة واليد التي تمتد لها عن بقية الجسد. الجزء الثاني من محاضرة ألقيت ضمن النشاط المنبري لكرسي عبدالعزيز المانع في جامعة الملك سعود بالرياض