غياب الديموقراطية، وغياب الانتخابات وغياب المشاركة السياسية: عبر هذه العناوين الجاهزة يحلل الكثير من المثقفين والمهتمين بقضايا التطرف أسباب ظهور وتنامي الخلايا المتشددة والمتطرفة، وبزوغهم فجأة في كثير من دول العالم، حتى باتت تشخيصا جامدا، أشبه ما يكون بكثير من الوصفات العلاجية الشعبية التي لا يجهلها أحد. تظهر هذه اللازمة كثيرا لدى بعض المثقفين العرب القادمين للثقافة من صورة نمطية للمثقف العربي، وهي صورة المثقف المرتبط بالحزب والذي يرى أن ثمة ثوابت للإصلاح السياسي والوطني تدور حول حرية الرأي والمشاركة السياسية وغيرها. هذه الأفكار، بشكل أو بآخر تصنع مدخلا مفتعلا للتشدد والتطرف، بل مثلما يستفيد المتشددون في خطاباتهم من الإرهاب وكأنه جنود لهم في الميدان، يستفيد منها كذلك بعض أصحاب الرؤى الثقافية المؤدلجة، فهي تقدم الإرهاب على أنه شكل من أشكال الاحتجاج الذي ينطلق من مبرر واقعي ومنطقي، وبالتالي فالخلاف كله على الأدوات والأساليب التي اتخذت لهذه المعارضة ولهذا الاحتجاج، لكن الفرق يكمن في أن الاحتجاج العام المطالب بالإصلاح والمشاركة السياسية، تمثل له هذه المطالب الوازع الحقيقي والأبرز لمعارضته، فيما ينطلق المتشدد من كون تشدده وتطرفه الديني هو الوازع الوحيد له للمعارضة والرفض، ومنطقه الذي أوجد موقف المعارضة ودعمها وأيدها، وارتباطه بالتدين والمصير والشهادة هو الذي حولها إلى دافع للانتحار لأن المصير بالنسبة له واضح ومعلوم ولا شك فيه. وهي القراءات التي ذهبت بالإسلام بعيدا وقدمت منه نسخة إرهابية ومتطرفة وصدامية للعالم، حتى بات العالم بأسره يتعامل مع الإسلام والمسلمين على أنهم أتباع الديانة الوحيدون الذين يجب اتقاؤهم والحذر منهم بسبب إيمانهم ودينهم. تلك التنظيرات الجاهزة تصطدم كثيرا مع تجربة المحاولة الفاشلة التي قام بها النيجيري عمر الفاروق عبد اللطيف لتفجير طائرة أمريكية ليلة عيد الميلاد قبل أسبوع ، والتي تضاف إلى كثير من المحاولات أو العمليات الإرهابية التي يقوم بها مسلمون لم يعيشوا في العالم العربي ، أو ليسوا من العالم العربي ، لأن قضايا الإصلاح والمشاركة السياسية والديموقراطية وغيرها من الممارسات المدنية إنما يكاد يفتقر إليها العالم العربي فقط والدول الإسلامية المعنية بالتهمة العالمية بأنها دول يجب الحذر منها ، وبالتالي فهؤلاء الإرهابيون لم يعيشوا في ثقافة أو في بلد يجعل غياب الديموقراطية والمشاركة إحدى عقدهم التي تجرهم إلى الدفاع عنها عن طريق القيام بعمليات انتحارية. وحتى على الجانب الآخر، فالإرهابيون في العالم العربي والذين يعيشون في بلدان لا يوجد فيها مظاهر للديموقراطية ولا للمشاركة السياسية، تعد كل الشعائر الديموقراطية بالنسبة لهم من آخر ما يطالبون به ويهتمون بوجوده، علاوة عن أن الرؤية الدينية المتشددة لا ترى في كل تلك الممارسات سوى أنها نوع من اتباع الأنظمة الغربية هي مدعاة للضلال والباطل، وحتى حين يتحقق قيام دولة وفق النموذج الذي كان قائما في أفغانستان إبان حكومة طالبان التي سقطت في عام 2001 م، فلم تشهد الدولة قيام أية إجراءات سياسية ديموقراطية، ولم يحولوا دولتهم المتشددة إلى دولة حقوق ومواطنة ومشاركة سياسية. إن التوجه إلى إبعاد الإرهاب من كونه مرتبطا بأزمة في التفكير الديني وفي الارتباك العقائدي الذي يتغشى الخطابات الدينية في علاقتها مع العالم، ومع القيم المدنية الحديثة، سوف يؤدي إلى خلق خطاب اعتذاري أو مهادن، بل سيحول الإرهاب إلى شريك في فكرة المطالبة بالحق المدني، بل سيتجه بمحاربة الإرهاب لتمارس وظيفة شرح المطالب وتربطه بالحياة والبناء والحقوق فيما هو لا علاقة له بكل ذلك على الإطلاق. بل هي آراء لا تختلف في تأثيرها السلبي عن تلك التي يطلقها مرتهنون للتشدد أو متورطون في خطابه حينما يقولون بأنهم شباب متحمسون وقد حدث ما أثارهم، أو من يربطون الإرهاب بالقضايا السياسية في العالم العربي. من الواضح أنه لابد من التركيز على أن مشكلة الإرهاب تختلف عن أية إشكالية مدنية أولا، لأنها تفتقر إلى السند المدني والحياتي، فهي معادلة تقوم على محاربة الدنيا للاتجاه منها إلى الآخرة، وفق التصور العقائدي المتشدد هو ما يحتاج إلى أن يسود مليا، بالإضافة إلى الأزمة الخانقة للخطاب الفقهي المعاصر وقصور السياق المعرفي مع الفقهي أن ينتج رؤية تستطيع استيعاب التحولات والقراءات الثابتة للدليل الديني والاحتكام إلى ظرف النص لا إلى قيمته، كلها محاور استطاع التركيز عليها طوال السنوات الماضية أن يسهم في بداية ظهور خطابات دينية رشيدة وحيوية ومتسامحة وعالمية. لقد استعاد العالم الآن من جديد حيويته لمهاجمة الإسلام والخوف من المسلمين بعد محاولة التفجير الفاشلة لطائرة ديترويت، وعاد الإرهاب ليمثل منطقة مثلما ستجذب الكثير من الحذر في العالم، يفترض بها أن تجذب كثيرا من العمل على تنقية وتنزيه وصناعة توازن لفكرة التدين بالدرجة الأولى والتأكيد على أنها فكرة للحياة وليست ضدها. إن المتظاهرين من المسلمين الذين وقفوا أمام ساحة المحكمة التي وقف فيها النيجيري المتهم بمحاولة تفجير طائرة ديترويت كانوا يحملون لافتات لاتتحدث عن براءته ولا عن ظلمه ولا عن التمييز العنصري، بل كانت تؤكد أن تلك الجريمة ليست من الإسلام ولا صلة لها به، وهو الموقف الذي يكشف عن غربة حقيقية سيعيشها الإسلام وأهله في كل العالم.