مع اكتمال انسحاب القوات الأمريكية من العراق خلال الأيام القليلة المقبلة، فان ثمة قلقا متزايدا في واشنطن من تصميم إيران على ملء أي فراغ فيه عن طريق تعزيز نفوذها في هذا البلد المجاور لها. فعلى الرغم من سخرية المسؤولين العراقيين من مثل هذا السيناريو باعتباره أمراً ينطوي على مبالغة كبيرة، من الواضح أن محاولة طهران الأخيرة تنصيب رجل دين كبير في واحدة من أقدس مدن العراق لتمارس بذلك نفوذاً أكبر على شؤون الحياة الدينية والسياسية فيه، دفعت المراقبين في المنطقة للتحذير من مشروع إيراني يرمي بكل وضوح لزيادة نفوذ طهران في العراق. الواقع أن إيران تمتعت منذ الغزو الأمريكي للعراق في 2003 بالقدرة على التأثير في هذا البلد من خلال استثماراتها الكبيرة وأعمالها الخيرية في مساعدة سكانه الشيعة، ودعم ميليشياتهم للتصدي للقوات الأمريكية على الأرض العراقية. غير أن قدرتها على التأثير في مؤسسة العراق الدينية القوية، التي يرأسها آية الله علي السيستاني في مدينة النجف المقدسة، بقيت محدودة. إلا أن طهران تحاول الآن بالتعاون مع حزب الدعوة، الذي ينتمي إليه رئيس الحكومة نوري المالكي، نقل واحداً من كبار رجال الدين المتشددين في إيران الى النجف. حول هذا يقول المحللون إن مسعى إيران لتنصيب آية الله محمود هاشمي شاهرودي المقرّب من حاكم إيران المطلق آية الله علي خامنئي، يستهدف تقويض مكانة السيستاني ووقف انتقاده الفظ لحكومة المالكي وجذب العراق أكثر لفلك إيران. صحيح أن الشاهرودي هو مجرد رجل لكنه ك«مرجع ديني» يعتبر واحداً من النخبة محدودة العدد التي تستطيع تحدي نفوذ السيستاني في العراق وتنسف بذلك آمال الأمريكيين في أن تكون علاقات العراق بإيران محدودة. سلطة ناعمة بالطبع ربما لا تنجح محاولة طهران هذه، لكن جهودها في هذا المجال تكشف كيف ستسعى إيران لممارسة سلطة ناعمة في العراق خلال السنوات المقبلة. يقول مهدي خلجي، المتخصص بالشؤون الإيرانية في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى: أعتقد أن هذه مجرد أمنيات يحلم بها الشاهرودي وحزب الدعوة وجمهورية إيران الإسلامية إذ سوف يعني مثل هذا الشيء في حال حدوثه أن الشهرودي سوف يكون ممثلاً لخامنئي في العراق.. هذه هي الخطة. لكن إذا كان هذان الرجلان يشتركان في صفة ال«مرجعية» إلا أنهما يختلفان عن بعضهما البعض في أشياء كثيرة. إذ بينما يلتزم السيستاني بالتقاليد الدينية بهدوء، ولا يتدخل بالسياسة إلا في أضيق الحدود على الرغم من إدانته المتكررة لفساد وسوء إدارة حكومة المالكي، وهذا بخلاف تمتعه بمؤيدين ومريدين كثيرين، ليس لدى الشاهرودي بالمقابل إلا أنصار قليلون وسوف ينقل معه من إيران شيئين: عقيدة «ولاية الفقيه» وشهرته كمناهض شرس لمعارضي النظام الإيراني مما يسيء لسمعته برأي المراقبين. يقول خلجي، الذي تتلمذ على أيدي رجال دين في مدينة قم بإيران ل14 سنة: أعتقد أنهم لن ينجحوا لأن الشاهرودي معروف منذ وقت طويل بأنه مجرد ألعوبة بيد النظام. صحيح أن لديهم الكثير من الأموال والنفوذ ودعاية ووسائل إعلام بحيث يستطيعون الزعم على الأقل بأنه مرجع ولن أتباع كثيرون، لكنني لا أعتقد أن هذا الوصف يتفق مع الواقع. علاقات أخوية علنياً، يتعهد العراق وإيران اللذان خاضا حرباً في الثمانينيات استمرت 8 سنوات وراح ضحيتها حوالي 400.000 شخص، بالمحافظة على علاقات الصداقة والاحترام بينهما. فقد قال الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في الشهر الماضي إن العلاقات العراقية – الإيرانية أخوية، وليس هناك من يستطيع إبعاد البلدين عن بعضهما، وإنهما يستطيعان تقديم المساعدة لإقامة نظام عادل في العالم. غير أن «علاقات الصداقة» هذه لم تمنع حزب الدعوة العراقي من النأي بنفسه عن عملية اختيار الشاهرودي كمرشد روحي في العراق بالقول إن للمعنيين بهذا الأمر مطلق الحرية لتحديد خياراتهم الدينية. لكن من الملاحظ أن المالكي قال عشية مغادرته العراق متوجهاً في زيارة رسمية الى واشنطن إن الأسباب التي تدعو إيران للتدخل في شؤون العراق آخذة في التناقص. وأضاف: إذا كان وجود القوات الأمريكية على الأراضي العراقية يشكل تهديداً للأمن الوطني الإيراني، كما كانت تقول طهران، فإن هذا التهديد قد زال الآن. غير أن «العلاقات الأخوية» بالنسبة لإيران لابد أن تتضمن على ما يبدو دوراً مهماً للشاهرودي الذي كان قد ولد في العراق. لكن المشكلة هنا هي أن هذا الرجل يحمل معه الكثير من الحقائق السياسية الإيرانية بالإضافة لفكرة الحكم الديني المطلق التي يؤمن بها، وهو أمر غير مقبول في العراق على نحو كبير. تقول صحيفة «الشرق الأوسط» نقلاً عن منشق إيراني: من الواضح أن خامنئي اتخذ عدداً من القرارات العاجلة لإجهاض التحديات التي يمكن أن يواجهها النفوذ الإيراني في العراق بعد الانسحاب الأمريكي منه، ومن هذه القرارات ما يلي: تعزيز دعم المالكي، المساعدة في توحيد زعماء وأحزاب الشيعة المنقسمة على نفسها وتعيين رجل دين شيعي كبير كمرجع ديني – ولاية الفقيه – في العراق، ومن شأن هذا بالطبع أن يؤسس لسلطة دينية شيعية بديلة لما هو موجود في العراق. وبدورهم، يلاحظ المراقبون السياسيون أن قرار تعيين الشاهرودي يمثل دليلاً واضحاً بين إصرار إيران على التدخل بشؤون العراق على نطاق واسع. (تعريب نبيل زلف )