يبدو أن تبادل العراق مع إيران قبل أيام رفات 93 جندياً قتلوا خلال الحرب التي دارت بين البلدين خلال الفترة من 1980 إلى 1988 والتي أسفرت عن سقوط مليون قتيل، ليس مجرد تبادل لرسائل موت قديم، إنه «إرث ثقيل» يتداخل مع أعباء الراهن وفجاجة السياستين العراقية والإيرانية ليصبح أكثر من نذير لا سيما مع شهية طهران المفتوحة للتوسع الاستراتيجي في المنطقة. العراق اليوم، كما يقول الجنرال رحيم صفوي، يوفر مناطق آمنة للنفوذ الإيراني، بل هو ومنذ عام 2003 «يشهد نفوذاً إيرانياً أكثر من النفوذ الأميركي». وإذا كانت الحال هذه طوال الوجود الأميركي الذي لم يشكل أي رادع لتمدد النفوذ الإيراني في العراق سياسياً وأمنياً واقتصادياً واجتماعياً (دينياً)، فكيف ستكون عليه ما بعد الانسحاب الأميركي؟ وأين ستذهب المجموعات المسلحة الشيعية والسنّية التي دعمتها إيران ودرّبتها وباتت تشكل قوة قادرة على ضرب الدولة العراقية في أي وقت؟ هذا من الأعباء الثقيلة على علاقة البلدين، فضلاً عن عبء ليس أقل ثقلاً، له علاقة جوهرية بالتغييرات في المنطقة وتحديداً في سورية الحليف القوي لإيران، فهل سيكون العراق في حال تمكن طهران منه كلياً «تعويضاً مناسباً» عن خسارتها دمشق، أم إنها تريده، كما تشير الوقائع، أن يصبح «جبهتها المتقدمة» في الدفاع عن نظام الرئيس السوري بشار الأسد؟ هذا على المستوى الأمني - السياسي، أما على المستوى الاجتماعي - الثقافي، فهو يثير هواجس العراقيين خارج جمهور التوليفة الحاكمة، لجهة أن البلاد تتجه إلى محاكاة النموذج الإيراني الثقافي الحاكم في التزمّت الفكري والإنساني. ثلاثة محاور هي أكثر من استحقاقات، يبدو البلدان على أكثر من مواجهة عبرها، وإن كانت تتصل بقضية أكبر تكاد تكون محكومة بنهاية صراع إيران مع الغرب، ووفقها قد ينجو العراق أو يصبح ساحة حرب أخرى. أميركا وإيران... والعراق يقول قائد القوات الأميركية في المنطقة الوسطى بالعراق الجنرال بيرنارد شامبو إن الجيش الأميركي سيغادر البلاد تاركاً وراءه تحديات كثيرة أمام العراقيين، لافتاً إلى أن «الأوضاع في العراق لا تزال مثيرة للقلق وهو كبلد لا يزال يعتبر مكاناً خطيراً». الجنرال الأميركي يؤكد أن «فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني يتمتع بنفوذ فاعل في العراق»، متهماً طهران بتمويل جماعات متشددة وتدريبها: «لا تزال الجماعات المتشددة ل «عصائب الحق» و«كتائب حزب الله» و«لواء اليوم الموعود» التي تتلقى دعماً من إيران، تتمع بنفوذ وقدرات سيكون على قوات الأمن العراقية التعامل معها». وثمة من يرى أن الولاياتالمتحدة تسعى إلى «حفظ ماء الوجه» بعد أن وجدت أن «العراق الأميركي» الذي سعت إلى تحويله نموذجاً رائداً في المنطقة تحول إلى منطقة خاضعة للنفوذ الإيراني وفق تأكيدات كبار قادتها الأمنيين والسياسيين، فقد طالب رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال مارتن ديمبسي بزيادة الوجود العسكري الأميركي في الكويت للتصدي للنفوذ الإيراني المتزايد في العراق ومنطقة الخليج. وعبّر ديمبسي في جلسة استماع للجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ عن اعتقاده بضرورة وضع نظام لتناوب القوات البرية والبحرية والجوية الأميركية في الكويت في شكل دوري مشيراً في الوقت ذاته إلى أن الولاياتالمتحدة لم تناقش هذه المسألة مع الكويت حتى الآن. ويوضح ديمبسي أن التفكير في تعزيز الوجود العسكري في الكويت «لن يكون استناداً إلى ما حدث في العراق لكنه نتيجة القلق المستمر من تنامي نفوذ إيران». ومن بغداد دون غيرها، يردّ وزير الخارجية الإيراني علي أكبر صالحي (إلى جانبه كان يقف وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري)، مهاجماً واشنطن: «حشد قوات أميركية في الخليج سيكون تصرفاً أحمق» بل إن الرجل يبالغ في إهانة الأميركيين ومن عقر دار «المثال الذي أرادوه للمنطقة» فيزيد: «الأميركيون لديهم دائماً وللأسف عجز في العقلانية والحكمة. لذلك، ما أتوقعه هو أنه حان الوقت للأميركيين... ليكونوا أكثر تعقلاً وحكمة في نهجهم». صحيح أن الحكومة العراقية وعلى لسان رئيسها نوري المالكي تؤكد بقاءها على الحياد في المواجهة السياسية حتى الآن بين طهرانوواشنطن، عبر قولها «لن نكون أميركيين ضد إيران ولن نكون إيرانيين ضد أميركا»، لكن هذا يبدو مناسباً تماماً للمنبر الذي ورد فيه: حديث إلى صحيفة أميركية، وهو ليس كذلك للعراقيين ولا للإيرانيين أيضاً الذين في حال قرروا المواجهة، أو فرضت عليهم، فهم ليسوا في وارد أخذ موافقة العراقيين. الرغبة الأميركية في إبقاء عدد من القوات في منطقة قريبة من العراق ضماناً لأمن الأخير و «لجعل إيران في وضع غير مريح»، يرد عليها رأي أميركي أيضاً، فالسيناتور ليندسي غراهام يرى أن «الإيرانيين لا يخشوننا على الإطلاق». كما أن أصواتاً أميركية معتدلة تقرأ الأمر من جهة الموقف العام للعراقيين، فثمة سؤال يتعلق بمدى توافق العراقيين مع خطط للمواجهة الأميركية مع إيران. انطلاقاً من أن «ليس من مصلحة العراقيين جعل أعداء أميركا أعداء للعراق أيضاً. فالعراقيون يرفضون أن يكونوا تابعين لإيران أو واشنطن». هنا تبدو تلك الأصوات «المعتدلة» أصداء لما قاله المالكي، بينما نسمع عن مخاوف عراقية من قوى لا تعرف بعلاقتها الوطيدة بإيران، فيقول زعيم «القائمة العراقية» أياد علاوي إن «النفوذ الإيراني سيكون الخطر الحقيقي الذي ستواجهه البلاد بعد الانسحاب الأميركي» مثلما يصرح نواب كثر أن «خطر الميليشيات التي دعمتها إيران لن يكون أقل من خطر القاعدة». ما إن تصاعد الضغط الداخلي السوري والعربي والدولي على نظام الأسد، حتى أحدثت بغداد تغييراً في لهجتها تجاه دمشق، بل إن من عهد إليه المالكي «المهام السرية» بين طهرانودمشق، أبلغ «الحياة» الأسبوع الماضي أن «العراق لن يربط مصيره بمصير الأسد»، فالقيادي في حزب «الدعوة» الحاكم الشيخ عبدالحليم الزهيري، يعرف أن من الصعب استمرار الحديث في بغداد وفق نبرة «الدعم الاقتصادي والسياسي غير المحدود لدمشق» وهي رسالة نقلها مراراً من طهران لتناقش في بغداد ثم لتصل قوية صريحة إلى دمشق، وان إمساك العصا من الوسط أمر ممكن عبر مخرج اسمه الوساطة تارة بين دمشق والمعارضة كما أعلن المالكي، والوساطة بين دمشق والموقف العربي المتمثل بقرارات جامعة الدول العربية تارة أخرى. غير أن هذا الموقف الذي يحمل بصمات المالكي دون غيره، وإن بدا متورطاً فيه وزير الخارجية (الكردي) هوشيار زيباري، لا يقره عراقيون من النخبة السياسية النافذة، فالنائب والشخصية الكردستانية المستقلة المؤثرة محمود عثمان طالب الحكومة ب «رفض الضغوط الإيرانية لدعم نظام الأسد»، وقال «الحكومة العراقية وضعت باعتباراتها الحسابات الإيرانية بخصوص موقفها تجاه الأحداث في سورية، لأن مصير نظام بشار الأسد بالنسبة لطهران مهم جداً وسيؤثر في انحسار نفوذها في المنطقة، ولهذا السبب مارست ضغوطاً وأساليب أخرى على بغداد لتكون داعمة لدمشق». وحين يقول شخص مثل عثمان إن «الحكومة العراقية وضعت باعتباراتها الحسابات الإيرانية بخصوص موقفها تجاه الأحداث في سورية» فهو يعني تماماً ما يقول، مثلما يعني ما يقوله توصيفاً حقيقياً للموقف العراقي حيال سورية، بل هو يؤكد في السياق ذاته أن «إيران أعلنت حرصها على بقاء النظام السوري والحكومة العراقية تبنّت الموقف الإيراني تجاه سورية». إيران العمائم والميليشيات في العراق قد يبدو الاتجاه الإيراني، المرحب به رسمياً في العراق، إلى إرسال رجل الدين البارز وأحد مؤسسي حزب «الدعوة» محمود الشهرودي إلى النجف الأشرف واتخاذها مكاناً لبدء نشاطه كمرجعية دينية، محاولة من طهران للسيطرة على المرجعية الشيعية التي لم تزل خارج إطار «الولي الفقيه» بل وتعارضه، انطلاقاً من كون الشهرودي الذي كان شغل مواقع بارزة في الدولة الإيرانية، مؤيداً للولي الفقيه، مثلما بات أقرب إلى أن يكون موضع تقليد حزب رئيس الحكومة العراقية: حزب الدعوة الإسلامية الذي ظل «يقلد» المرجع الراحل محمد حسين فضل الله حتى وفاته، بل إن هناك أوساطاً دينية وسياسية شيعية أبدت تخوفها من ترويج أجهزة الحكومة المركزية وعدد من الحكومات المحلية في محافظات الفرات الأوسط والجنوب، للدور الذي سيلعبه الشهرودي، من خلال التسريبات والأخبار التي تشير إلى مبايعة المالكي له مرجعاً للحزب وتوظيف موارد الحكومة في بغداد والنجف من أجل تأمين مقر له، إلى حد وصفته ب «ذراع الدعوة في محاولة السيطرة على مرجعية النجف» لا سيما أن المرجعية العليا الممثلة بالسيد علي السيستاني درجت على رفض استقبال رئيس الوزراء فضلاً عن توجيه النقد القوي لأداء حكومته ومؤسسات الدولة عموماً، لافتة إلى أنه «مثلما سيطر حزب الدعوة على مؤسسات الحكومة والدولة واحدة تلو الأخرى فإنه سيضع عينه هذه المرة على مرجعية النجف، وسلاحه هذه المرة قوي ومؤثر عبر الشهرودي». وتعتقد تلك الأوساط التي تحدثت إليها «الحياة» في مدينتي الحلة والنجف الأشرف أن «اختيار «الدعوة» الشهرودي مرجعاً «إشارة إلى أن المالكي يريد إحداث تغيير بارز في تقليد درج عليه الحزب، فهو في ذلك إنما يعلن تأييده غير المباشر للولي الفقيه لا سيما أن الشهرودي كان أحد الدعائم البارزة لنظام الولي الفقيه، وبالتالي فإنه سيضمن تحالفاً قوياً مع إيران ليس سياسياً فحسب بل دينياً وعقائدياً هذه المرة». هذا المؤشر إلى النفوذ الإيراني «المباشر» دينياً في العراق قد يبدو غير مهم وغير مؤثر في الشكل الآخر «غير المباشر»، فمئات الطلاب في الحوزة الدينية فضلاً عن عشرات المدارس والجامعات الدينية في العراق يتلقون دعماً مالياً شهرياً ثابتاً من مؤسسات خيرية وثقافية إيرانية التمويل والنهج والسياسة، عراقية الإدارة والتنفيذ. والمؤثر الثقافي هنا في شكله الديني، يتسع إلى أبعد من هذا في مؤسسات «عراقية» فكرية وإعلامية وإنسانية صحية وخيرية، بل إن عشرات الصحف والمحطات التلفزيونية والإذاعات والمواقع الإلكترونية تبث في العراق بإشراف وتمويل إيرانيين بما يشكل أرضية واسعة تحاكي السائد الثقافي في إيران «ولاية الفقيه». النفوذ الثقافي والاجتماعي الديني الإيراني في العراق، يكتسب خطورته لا من «معركة القلوب والأفكار» التي انتصرت فيها طهران على واشنطن في العراق فحسب، بل من أدواته التنفيذية المستندة إلى الميليشيات المسلحة التي جربت بقوة فرض الثقافة الدينية المتزمتة في مدن شيعية عدة قبل معركة المالكي مع «جيش المهدي» في عام 2008، وهي لا تخفي توجهها لما بعد رحيل الاحتلال بالقول إنها ستنتقل من «ميدان العمل الجهادي المسلح ضد الاحتلال إلى الميدان الديني العقائدي والثقافي» وهو ما سيجعل الحديث عن العراق بصفته «دولة مدنية» أشبه بالحديث عنه، في بغداد وواشنطن على حد سواء، على أنه «مثال يحتذي للديموقراطية في الشرق الأوسط».