تنطلق الرؤية 2030 ولدينا شريحة فقيرة لا تملك قوت يومها، فهل من تقاطع بين «الرؤية السعودية 2030» و«استراتيجية مكافحة الفقر»؟ كمواطن، كنت أتمنى رؤية «التخلص من الفقر» ضمن الأهداف الرئيسية للرؤية التي نعول عليها كثيراً. فما موقع تنفيذ استراتيجية مكافحة الفقر في خضم الرؤية؟ هناك جوانب للرعاية الاجتماعية تناولتها الرؤية، ولاسيما ما ورد تحت «نُمَكن مجتمعنا»، لكن الرؤية لم تتناول خفض نسبة الفقر كهدف محدد، وهذا أمر يُستغرب غيابه من وثيقة الرؤية، ولعل من الأهمية استدراك ذلك في النسخة القادمة من الرؤية، وعلى صلة بذلك ما سبق أن طرحته عشية الإعلان عن الرؤية من أن الحاجة ملحة لإعادة هيكلة شبكة الأمان الاجتماعي حتى قبل تطبيق سياسة الخفض التدريجي للدعم الحكومي على المحروقات والكهرباء والماء. فعلى الرغم من أهمية ترشيد الدعم بجعله يذهب فقط لمستحقيه وهم الفقراء ورقيقو الحال ومنخفضو الدخل، إلا أن سياسة الدعم الحكومي عُدلت منذ بداية العام 2016 دون أن تعاد هيكلة شبكة الأمان الاجتماعي حتى الآن. ثمة انطباعات راسخة منذ بدايات تبلور طروحات الاقتصاد السياسي، بما في ذلك ما تناوله أبو الاقتصاد السياسي «ريكاردو» في كتابة «مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب» في بداية القرن التاسع عشر، وهو الرجل الذي صاغ قانون الندرة. تجدر الإشارة إلى أن ثمة علاقة بين الندرة والثروات؟ فللندرة علاقة وثيقة بالسعر، باعتبار أن السعر يرتفع عند زيادة الطلب مع ثبات أو قصور العرض. أما علاقة الندرة بالثراء الفاحش، فتكمن في أن احتكام عشرات من المليارديرات على حصة مهمة من ثروة العالم، يعني بالضرورة تكدس وتراكم عناصر الإنتاج لديهم، في حين يعاني ملايين من نقص في تلك العناصر، بما يحد من قدرتهم على الإنتاج والكسب، ويثبط الكفاءة الاقتصادية. ولا بد أن نتذكر أن عدم تكامل عناصر الإنتاج وانسجام مالكيها يولد اقتصاداً غير مستقر بسبب افتقاره للتوازن؛ تصور مثلاً أن شخصاً يملك مخططاً سكنياً ويدرك حاجة الناس له ورغبتهم في شراء قطع من أراضيه، فتكون ردة فعله أن يختبر رغبتهم بأن يعرض القطع على مراحل متتابعة، ليبيع القطع في كل مرحلة بسعر أعلى من المرحلة السابقة لها. لا إشكال إن كان في مقدور الراغبين الشراء، لكن يحدث عدم التوازن عندما يتضح أن ليس بمقدور أحد شراء تلك القطع المعروضة، ليس لعدم الرغبة بل لعدم امتلاكهم للمال! وهذا يطبق على السيارات، والأدوات الإلكترونية، والذهاب للمطاعم والترفيه: هناك من يكتنز ويحتكر ويتحكم بالسعر، وهناك من يتمنى ولا يستطيع الاقتناء لعدم امتلاكه للمال! هكذا، تتضح الندرة، أن مورداً متوفر لكنه غير متاح، بسبب الارتفاع الهائل لسعره بما يجعله ليس في المتناول. وتكدس الأثرياء الكبار في بقعة مدن عالمية مثل لندن أو دبي أو الرياض، يشير إلى أن معظم هؤلاء يكسب المال من مصادر بعيداً عن المنافسة، باعتباره الأكبر والأكثر تأثيراً على السوق، بما يجعل الفاصل بينه وبين بقية اللاعبين (المنافسين) في السوق هائلاً، ارتكازا إلى مزاياه التنافسية الواضحة. وهكذا، فتكدس ثروات ضخمة لدى عدد قليل يستوجب تعاملاً يعزز أسس الاستقرار الاجتماعي-الاقتصادي؛ إذ تجدر الإشارة أن على الناحية المقابلة فقرا مدقعا لا يمكن أن يهمل. ما الحل؟ على مدى القرنين من الزمن تكاثرت النظريات والمبادرات حول هذا الأمر تحديداً، وعانت دول عديدة في أوروبا بسبب أن الاقطاعيين يرفعون باستمرار أجرة أراضيهم نظير أن يزرعها الفلاحون، لدرجة أن كانت تلك الأجرة توازي أو تقل قليلاً عن قيمة ما ينتجه المزارع من محاصيل! ولذلك نجد أن في معظم الاقتصادات المُنتجة الحكومات تجمع الضرائب لسببين رئيسيين: (1) لتنفق على ذاتها وتمول أنشطتها، (2) لتطلق برامج تساهم في تحقيق التوازن الاجتماعي-الاقتصادي. وتصمم الحكومات تلك الضرائب لتتناسب طرداً مع تعاظم دخل الفرد. وبالتأكيد، هذه ليست دعوة لفرض ضرائب على دخل السعوديين، بل للتنبيه أن تحقيق التوازن لا يكون بالضرورة من الأخذ من الغني لإعطاء الفقير، ففي ذلك محاذير كثيرة لا سيما في اقتصاد ما زال ريعياً كالاقتصاد السعودي، ولعلنا نستعد لذلك مع حلول العام 2030، عندما نتحول إلى اقتصاد منتج متعدد الموارد. ما الحل إذاً، حالياً ما يجب أن يُنفذ بالضرورة لتحقيق التوازن الاجتماعي-الاقتصادي، وصولاً لتوزيع أفضل للدخل وللثروة، هو أن تمنع الحكومة بسلطاتها الواسعة والمتعددة الغني من: (1) الاحتكار والتعسف بما يملك، (2) القيام بأي ممارسة تربك مستوى الأسعار فجأة، (3) استصدار نظام (قانون) للمسئولية الاجتماعية يَفرض على المؤسسات الاقتصادية المساهمة في تمويل برامج التنمية الاجتماعية عبر إطلاق برامج متكاملة تشمل فرص التعلم والتدريب والتأهيل للفئات الفقيرة، فذاك هو السبيل الأنجع لإخراج الفقير منهم من فقره، وتمكينه من التقدم مهنياً أو استثمارياً. ولعل المدخل الملائم هو أن تدعم المنشآت الاقتصادية صندوق الخيري الاجتماعي بمبالغ مالية، كنسبة مئوية من اقراراتها الزكوية، بمعنى أن تدفع الزكاة بواقع 2.5 بالمئة من الوعاء الزكويّ، يضاف لها مثلاً 0.5 بالمائة (أو أقل أو أكثر) تذهب للصندوق الخيري الاجتماعي. هذه الأموال ضرورية لتمويل برامج على مستويين. الأول، إطلاق مبادرات لاستقطاب الأكثر فقراً اجتماعياً وحرماناً مالياً؛ بما يمكنه من أخذ فرصته في المجتمع، ويُحَسن فرصته للحصول على مؤهل مهني أو تعليم عال أو فرصة عمل قيمة تفتح له ولأسرته آفاقاً جديدة ومستقبلا مثمرا وواعدا. ومن جانب آخر توفير فرص لتمويل بذور المشاريع المجهرية والناشئة والصغيرة ليصبح صندوق الخيري الاجتماعي هو النسخة السعودية ل «جرمين بنك»، فهذا الضخ المالي كفيل بإيجاد فرص جوهرية قد تستطيع - مع مرور الوقت-أن تضيف آلة لتسريع خروج الفقراء من فقرهم بل وتحقيق اختراقات ونجاحات مُحفزة لمختلف شرائح المجتمع، وهي تحمل في طياتها أننا جميعاً سنساهم - كمجتمع- في الحفاظ على فرصة أبناء المجتمع للانطلاق والنجاح، وأن فقر أحدهم لن يكون عائقاً. والمستوى الثاني، إطلاق برنامج لمكافحة الفقر ودعم منخفضي الدخل، وهذا يعني وضع خط للفقر، وهذا سيعني تحديدا لمن ينبغي أن يذهب الدعم الحكومي، كما سيحدد من هو المستحق للاستفادة من برامج ومبادرات الصندوق الوطني الخيري. إذ ان تحديد هذا الخط هو المتطلب الأهم لوضع استراتيجية وآليات ميدانية لتوجيه الدعم لمستحقيه ولا أحد غير مستحقيه، بما يجعل الطريق آمنة لتسعير السلع تسعيراً تبعاً للمنافسة وآليات السوق دون تدخل حكومي مباشر، ودون الخوف من أن قانون الندرة سيحرم الفقير ويفتك به اجتماعياً. ورغم تفاوت وجهات النظر، فهناك فرق - لا شك- بين الاستمرار في منح الإعانات النقدية لسنوات وسنوات، وبين تقديم الدعم لتحفيز الشخص للخروج من فقره إلى رحاب التعلم والعمل وتحقيق الذات والمساهمة في بناء المجتمع. وهكذا، يمكن الجدل أن الرؤية تقف وجهاً لوجه أمام تنفيذ استراتيجية لمكافحة الفقر، بما يعني الضرورة الحرجة لوضع برامج وآليات لتنفيذها تتماشى مع الرؤية 2030، بما يرفع كفاءة الاقتصاد المحلي من جهة ويحقق نجاحاً اجتماعياً، في خفض تأثير الفقر على شرائح مستهدفة تحديداً بما يعود بالنفع على المجتمع إجمالاً.