من عرف معنى التوحيد في العبادة، علم أن المسلمين لا يعبدون الكعبة ولا الحجر الأسود ولا مقام إبراهيم ولا الصفا والمروة ولا غيرها من مواطن العبادات، بل يعبدون الله وحده باتباع ما شرعه عندها. فتعظيم الشعائر والآثار الدينية بما شرع عندها من العبادات طاعة لأمر الله وليس عبادة لها، وتخليد الآثار الدنيوية بغير قصد عبادة معروف في الأمم لا يستنكر، والإفرنج أشد الناس عناية بذلك فقد بنوا لعظماء الملوك والفاتحين والعلماء الهياكل العظيمة ونصبوا لهم التماثيل، وهم لا يعبدون شيئا منها، فلا ينبغي أن نكترث بما يتهم به المستشرقون والقساوسة المسلمين من دعاوى عبادة المسلمين الكعبة والحجر الأسود والمقام وغيرها من مواضع، فهم يريدون بذلك تشكيك المسلمين وتنفيرهم من دينهم بالتمويه عليهم باستنكار تعظيم الحجر الأسود والكعبة بزعمهم أنها آثار وثنية، وعلينا أن نعلم أن الكعبة بيت الله أقدم أثر تاريخي ديني للتوحيد لأقدم إمام موحد داع إلى الله من النبيين المرسلين، وهم يعرفون ذلك في تاريخهم ويعلمون أنها بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام اللذين أجمع على إسلامهما وتعظيمهما المسلمون واليهود والنصارى. ولقد كرم الله بيته حين صرف المشركين عن عبادته، وإنما وضعوا فيه الأصنام وعبدوها فيه ولم يعبدوه، وما ذلك إلا أن عبادة اعتقاد بأن للمعبود سلطة غيبية يرجى بها طلب المتعبد النفع ودفع الضر، سواء أكانت هذه السلطة ذاتية لذلك المعبود أو غير ذاتية له كأن يُعْتَقَد أن ذلك المعبود واسطة بينهم وبين الله، وليس في عقيدة المسلمين أن الكعبة أو الحجر الأسود ينفع أو يضر بذاته، أو أن له جاها وسلطة يقرب من يتخذه واسطة إلى الله تعالى، حتى العرب في الجاهلية لم تكن تعتقد ذلك أو تقوله في البيت أو الحجر كما تقوله في أصنامها: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)، أو تقول: (هؤلاء شفعاؤنا عند الله). واعتقاد المسلمين في الحجر هو ما قاله عمر بن الخطاب عند تقبيله الحجر، قال: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك)... حديث صحيح رواه الجماعة. قال الطبري: إنما قال عمر ذلك أي أنه معلوم من الدين بالضرورة؛ لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام فخشي أن يظن الجهال أن استلام الحجر الأسود من باب تعظيم الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية، فأراد أن يُعلّمَ الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا أن الحجر يضر وينفع بذاته. فإذا كان الأمر كذلك فقد يقول قائل: ما حكمة جعل ما ذكر من العبادة؟ وهل يصح القول: إن النبي (صلى الله عليه وسلم) تركه في الكعبة مع أنه من آثار الشرك تأليفا للمشركين واستمالة لهم إلى التوحيد؟ الحق أن الحجر ليس من آثار أهل الشرك وليس من وضع المشركين، كما أنه ليس مُهبَطاً من الجنة وليس يمين الله في الأرض سودته المعاصي، بل هو حجر أسود اللون وضعه إمام الموحدين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وجعله في ذلك الموضع من بيت الله ليكون علامة لمبدأ الطواف يعرف بمجرد النظر إليه في الكعبة فهو علامة ينتظم بها الطواف، فأصبح بهذا من شعائر الله يكرم ويقبل ويحترم لذلك كما تحترم الكعبة بيت الله الحرام، والكعبة وإن كانت بناء من الحجارة، إلا أن العبرة بما ارتبطت به هذه المواضع والأبنية من إفراد الله بالتوحيد الذي تجسد في امتثال إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لربهما، ابتداء بترك هاجر وإسماعيل كما أمر الله - تعالى - ثم رفع القواعد من البيت وبنائه، ثم الأذان بالحج في الناس، والقصد أن هذه عبادة يتبع فيها ما ورد بلا زيادة ولا نقصان، ولهذا لا نقبل أركان الكعبة الأخرى طاعة لله - تعالى - واتباعا لرسوله لا هجرا للبيت.