تبدأ الحياة وتستمر عندما نزيح جانبا «الأنا» الخاصة بنا من قاموس حياتنا ونفسح المجال لمحبة الآخرين، عندما نحيا قلوبا صافية تحب، سليمة نقية قولا وفعلا، عندما نكون أخلاقا تعبر محيط جوارحهم بأشرعة تتسامى وترقى بصفاء النفوس لتصل لأرواحهم، لقدس أقداس أعماقهم، وتستقر بين جوانبهم، بين أضلعهم تعانق الأفئدة فيهم وتقبّل المهج منهم، فلا تفرقة ولا عنصرية ولم أعدْ أنا أنا، ولم تعد أنتَ أنتَ ولم يعودوا هم هم، بل ضمائر حية متعانقة تتصل ولا تنفصل وتشكل الإنسان وتتشكل من إنسانية الإنسان «نهر من النور يسير من أودية الأزل إلى بحر الأبد.» فلتدم الإنسانية وتستمر الحياة وتمتد إلى ما لا نهاية ولنصنع من أنفسنا والآخرين نسيجا اجتماعيا متكاتفا متلاحما تلفه الرحمة وتعطره الغيمة ويطرِّيه الندى، مجتمع يحتضنه الوجدان وتظلله المشاعر وتزينه الورود، وإن كان تحت الورد شوك فلا بأس، ففوق الشوك ورد، وهذا طابع البشر. شعور حميم بالآخر يربط الإخوة في المجتمع الواحد والوطن الواحد بالرباط الشمولي الخالي من الشوائب يمتص الألوان والمذاهب والطوائف، ويضمها إلى صدره، وتبقى الحياة وطنا، وتظل الأوطان حياة ما بقيت الحياة، ونحن المجتمع والمجتمع إنسان فليحيا هذا الإنسان وتستمر الحياة متربعة على منبر الإنسانية بقلبها الصامت الإنسان. حياتنا التزام يحوّل كل شيء لواقع وحقيقة وأفعالنا صوتها يعلو على صوت الأقوال ولها صدى يغير وجه الأشياء، وكلها لصالح الإنسان وتبقى الحقيقة حياة.الحياة أفكار وخلاصة تجارب من سبقنا، وهذه التجارب وفلسفات العلماء خريطة ممشانا بعد كتاب الله وسنة نبيه (عليه أفضل الصلاة والسلام) وتفكيرنا الناضج وضميرنا الأمين توأم هذا التفكير، فإن فقدنا هذا التوأم فقدنا السيطرة على دفة سفينة حياتنا، ولا ننسى البساطة في حياتنا، فمفهوم الحياة الأكثر عمقا يسكن الأشياء الطبيعية الأكثر بساطة، والإنسان هو معيار كل شيء، والدين والقيم والمبادئ البوصلة التي تحدد اتجاهاتنا في الحياة. تستمر الحياة أكثر إشراقا؛ عندما نتفاعل مع كل ما يدور من حولنا في هذا الكون نتفاعل ونتفاعل، فحياة الأصنام والأجسام الجامدة البشرية المتقوقعة على نفسها لا ولن تستمر معها حياة. لطالما ذكّرت أبنائي وقبلها طالباتي والمعلمات في المدرسة ذكرتهن ولفتُ انتباههن لحقيقة قد تكون غابت عن بعض الناس، حدثتهن عن واقع ملموس عن أن حياة الإنسان التي تستمر سعيدة وتستقيم شرطها الأساسي رضا الله سبحانه، يقول الله{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} حياة، ولم يقل: معيشة، فشتان بين من يعيش ومن يحيا. الحياة الحق التي لا زوال لها ولا انقضاء، بل هي مستمرة إلى أبد الآبدين، وتستمر الحياة سعيدة عندما نكون إيجابيين في أهدافنا، وعندما نعرف قيمة ذاتنا ونكون صادقين معها ونتقن فن إدارتها ونعزف على أوتارها سيمفونيات من معاني الحياة الجميلة، فلا حياة بدون معنى ولا معنى بدون حياة ولا وجود من غير وجود لحياتنا. الإنسان عندما يفشل، يزهد بالحياة الدنيا فما عليه إلا أن يتأمل هذه الحكمة (أجمل رسم هندسي يقوم به الإنسان أن يبني جسرين مِن الأمل فوق بحر من اليأس والإحباط)، فحرام أن نظلم الحياة ونتهمها بأنها تعطينا ظهرها، فلربما نحن من يجلس في الاتجاه المعاكس، وعندما نقول إن الحياة فقاعة تلمع بألوان الطيف وفجأة تتحول إلى لا شيء هذه الفقاعة من نسج خيالنا الخصب فلا حياة لخيال يتفنن في رسم لوحاته ضد الواقع. الحياة لوحة فنية نرسمها بألوان التفاؤل والأمل والسعادة ومحبة الآخرين، ولنبدع فيها ما دامت الفرشاة بيدنا ولنحيا، وشتان بين من يعيش ومن يحيا.