بعد الاستماع إلى قادتنا السياسيين، قد تعتقد أن كل مَن يعيش على الكوكب يعمل في مصنع. يريد دونالد ترامب إيقاف الصين والمكسيك من «أخذ فرص العمل لدينا» عن طريق منع المصانع من الانتقال إلى هناك - وهو على استعداد لشن حرب تجارية لتحقيق هدفه. ادعى مايكل شورت مؤخرًا، المتحدث الرسمي باسم اللجنة الوطنية للحزب الجمهوري، بأن خسارة 264 ألف فرصة عمل في مجال التصنيع في ظل إدارة الرئيس أوباما تُعدُّ بمثابة «تذكرة صارخة بفشل سياساته»، تمامًا كما لو أن ال10 ملايين فرصة عمل الأخرى المضافة في عهد أوباما لا تهم. هذا الهوس بالمصانع يهدد بتقويض السياسة الاقتصادية السليمة. الفكرة التي مفادها أن القوة الاقتصادية ينبغي أن تقاس من خلال عدد خطوط التجميع الموجودة في بلد معين مقارنة مع غيره من البلدان تستند إلى تفكير عفى عليه الزمن. كما أن المحاولات المحمومة لإنقاذ المصانع تعتبر تشتيتا عن التحدي الحقيقي المتمثل في إعداد الاقتصادات والعاملين لمتطلبات القرن الحادي والعشرين. في وقت ما، كان يمكن القول إن المصانع تعد دليلا جيدا على التقدم الاقتصادي. حيث عملت الثورة الصناعية في بريطانيا على تغذية نهوضها وبروزها كقوة عالمية، تماما كما دفعت براعة التصنيع في أمريكا صعودها فيما بعد. في الأسواق الناشئة اليوم، يمكن أن توفر المصانع فرص العمل اللازمة للتخفيف من الفقر وحفز التطور السريع. توسعت الصين لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم بسبب تأسيسها للمصانع. وأطلق رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي حملة «اصنعوا في الهند» على أمل بناء قطاع صناعة تحويلية يمكنه استيعاب ملايين الشباب الهندي المنتقل من المزارع إلى المدن. لكن الحقيقة هي أنه في العصر الحديث، فإن موضوع القيمة التي يقدمها المصنع القائم لمعظم الاقتصادات الوطنية هو موضوع قابل للنقاش. ربما يشعر الأمريكيون بالخوف من حقيقة أن المنتجات مثل أجهزة الآيفون التي تنتجها شركة أبل يتم تصنيعها في الصين. لكن في النهاية، لا يبدو الاقتصاد الأمريكي بأنه يخسر الكثير. وجدت دراسة أجريت من قبل معهد بنك التنمية الآسيوي أن عملية تجميع جهاز الأيفون لشركة أبل - التي يضطلع بها العمال الصينيون في مصانع موجودة في الصين - تستأثر بنسبة 3.6 بالمائة فقط من إجمالي تكلفة إنتاج الهاتف. والشركات التي طورت تكنولوجيات الجهاز الهامة وزودته بالمكونات المهمة - في معظمها، شركة أبل نفسها - استولت على حصة الأسد من قيمته. وهذا واضح للعيان من خلال هوامش أرباح الشركات. حيث كان دخل شركة ابل التشغيلي يمثل 30 بالمائة من إيراداتها في السنة المالية الأخيرة. وعلى سبيل المقارنة، نفس المقياس في الشركة الذي تتعاقد معها أبل في كثير من عملياتها التصنيعية - وهو مؤشر صناعة الدقة هون هاي في تايوان - بنسبة 3.7 بالمائة فقط. كما أن من المشكوك فيه أيضا ما إذا كانت المصانع سوف تبقى مصدرا هاما لفرص العمل الجديدة في المستقبل. حيث إن الأتمتة والتطورات التي تتحقق في مجال الروبوتات والذكاء الاصطناعي جميعها تجعل من الممكن أن تقوم الآلات بأداء المزيد من العمل التصنيعي الذي يقوم به حاليا الإنسان، ما ينتج عنه وجود «مصانع مظلمة» لا تحتاج لإضاءة لأن من يعمل فيها هم الروبوتات فقط. تتوقع مجموعة بوسطن الاستشارية أنه بحلول عام 2025، سوف يتم أتمتة ما نسبته 25 بالمائة تقريبا من جميع المهام الموجودة في مجال الصناعات التحويلية، مقارنة مع حوالي 10 بالمائة اليوم. خلافا للاعتقاد السائد، لم تكن «خسارة» فرص العمل في مجال الصناعة التحويلية في الولاياتالمتحدة بمثابة تلك الضربة الكبيرة التي تتلقاها العمالة الإجمالية. وفقا لمكتب إحصائيات العمل الأمريكي، تراجع عدد العمال العاملين في مجال الصناعة التحويلية بنسبة 5.3 مليون خلال السنوات الثلاثين الماضية. وهذا ربما يبدو رقما كبيرا، ما لم تدرك أن هنالك 151 مليون شخص يعملون في الولاياتالمتحدة حاليا. وحتى لو فُقِدت تلك الوظائف البالغ عددها 5.3 مليون وظيفة اليوم، بدلا من أن تحدث على مدى 3 عقود، فإن من شأنها أن تؤثر في 3.5 بالمائة فقط من العمال الأمريكيين. في الوقت نفسه، كان أداء الاقتصاد الأمريكي جيدا في خلق فرص العمل الأخرى. حيث إن عدد الأمريكيين العاملين في قطاع الخدمات الخاص ارتفع بمقدار 43 مليون شخص على مدى الفترة الزمنية ذاتها الممتدة لثلاثين سنة. بالطبع، عانى العمال الذين خسروا وظائفهم في المصانع بشكل كبير ونحتاج لفعل المزيد لمساعدتهم. الأهم من ذلك كله، أنه يتعين على برامج التدريب في العمل والتعليم المهني والجامعات أن تتلقى تمويلا أفضل، وأن تكون متوافرة على نطاق أكبر وبأسعار معقولة بالنسبة للعائلة المتوسطة. هذه هي الطريقة الوحيدة ليقوم العاملون برفع مستوى مهاراتهم من أجل الاستمرار في نطاق القوة العاملة في المستقبل. وحتى لو بقيت المصانع مفتوحة الأبواب، سيحتاج العمال الذين سيجري توظيفهم هناك وبشكل متزايد إلى المزيد من الخبرة الفنية الأكثر تقدما. بدلا من ذلك، فإن الحلول التي يقترحها معظم رجال السياسة سوف تحمي القليل على حساب الكثير من العمال. فنحن يغلب علينا أن ننسى كيف عملت التجارة الحرة وأنظمة الإنتاج العالمية على خفض التكاليف لدى الشركات التجارية والمستهلكين. ومنع الشركات من التصنيع خارج البلد عن طريق فرض رسوم تعرفة جمركية مرتفعة، كما يقترح ترامب، من شأنه أن يرفع أسعار كثير من الضروريات المنزلية، ما يعمل على إلحاق الضرر برفاه العائلات الأمريكية في الوقت الذي تحمي فيه عددا قليلا من العمال. بحث معهد بيترسون للاقتصاديات الدولية في ما حدث عندما فرضت الولاياتالمتحدة تعرفة بنسبة 35 بالمائة على واردات الإطارات الصينية في العام 2009 واكتشف أنه لم يجر إنقاذ أكثر من 1200 فرصة عمل، في الوقت الذي اضطر فيه المستهلكون الأمريكيون إلى إنفاق مبلغ إضافي قيمته 1.1 مليار دولار على الإطارات. مقابل حوالي 900 ألف دولار لكل فرصة عمل يجري الحفاظ عليها، تبدو التكلفة حادة جدا. إن الهوس بخصوص المصانع لا يؤثر فقط على السياسة الاقتصادية في الولاياتالمتحدة. في الصين، يبشر القادة في بكين بالحاجة إلى إجراء إصلاحات اقتصادية والابتكار، لكنهم يواصلون دعم المصانع الزائدة والمسرفة في صناعات مختلفة بدءا من الصلب إلى الزجاج، بشكل رئيسي للحفاظ على العمالة. في هذه العملية، يعملون على تقويض سلامة القطاع المالي ويحرمون صناعات الموارد الأكثر إنتاجية. إن وجود المصانع ربما يكون أفضل من عدمه. لكن يتعيّن على صناع السياسة إدراك أنه لا يمكنهم تحويل عقارب الساعة إلى الوراء رجوعًا إلى الخمسينيات. بدلا من تبني سياسات للمحافظة على وظائف الأمس، يجدر على السياسيين أن يستثمروا في برامج لإعداد العاملين لمستقبلهم المحتمل الذي سيختلف عن الماضي.