وريث صُدفة، فرّخت طُغمة طُغاة، جثمت على سوريا أربعة عقود ونيف، وما زالت، تبجحت طويلاً بكلمات ممجوجة عن «وطن حر»، و «مقاومة» لا تنكسر، و «دولة» لا تستمر دون «الدم»، و «كرامة» لا تتحقق دون «رئيس» أو «دمية»، لا فرق، برتبة «طاغية» بشار الأسد، رئيسٌ «طاغية» ولد من رحم «الموت»، فحكايته بدأت بحادث سيارة «مُدبّر»، قَتَل فيه شقيقه الأكبر (باسل)، ضمن عملية مُتقنة، نفّذها (عام 1994) صديقه مدير قسم الإرهاب في سوريا، العميد منير شليبة، ليعتصر الأب حافظ الأسد ألماً على سلطان أعده لوريثه القتيل الوَلِه ب «إيما»، أو «أسماء» ابنة الطبيب، التي صارت زوجته، ولد عام 1965، في دمشق، لأب من أسرة «علوية»، وتلقى تعليمه (الابتدائي والإعدادي والثانوي) في معهد الحرية، وهنا المفارقة العجيبة، إذ لم تترك فيه كلمة «الحرية» أي أثر، ليكمل درسه في كلية الطب بجامعة دمشق، التي تخرّج منها عام 1988، وبدأ مسيرته العملية. مَرَضُ حافظ الأب أثار أسئلة عميقة بشأن الوريث، ليبدأ معها الصراع على السلطة في سوريا، وهو الصراع الذي انحاز فيه الأب لصالح الابن الأكبر (باسل)، الذي تولى قيادة الحرس الرئاسي، ما أغضب الابن الأوسط (بشار)، ودفعه للمغادرة إلى بريطانيا، حيث خطط هناك لمقتل شقيقه وتولي الحكم. لا تنفصل سيرة الابن عن أبيه، ف «حافظ» الأب تسلل إلى الحياة من أسرة فقيرة، واقترب إلى السياسة من بوابة «العسكر»، اللذين التحق بهم لعجز عائلته عن تعليمه، ليعتليَ «السلطة» بعد أن قدّم أوراق اعتماده إلى إسرائيل في حرب عام 1967، حيث تقاعس- بوصفه وزيراً للدفاع وقائداً عاماً للجيش- عن إسناد الجيش الأردني في جبهات القتال بالطائرات السورية، وفق اتفاق بين الدول العربية، ما أسفر عن «الهزيمة» و «احتلال ما تبقى من فلسطين»، وأيضاً «احتلال هضبة الجولان السورية». ثمة حكايات لم تر النور بَعد عن دور حافظ الأسد في حرب 1967، لعل واحدة منها حوار جرى بينه والملك حسين، وتحديداً قُبيل ظهيرة الخامس من حزيران/ يونيو 1967، لدى عودة الطائرات الإسرائيلية من قصف جوي لمصر، إذ هاتف الحسين، بوصفه قائداً للجيش الأردني، نظيره آنذاك حافظ الأسد، وكان الحوار التالي: الملك حسين: الطيران الحربي الإسرائيلي عائد الآن من الجبهة المصرية بلا ذخيرة ولا وقود، الوضع ملائم لتوجيه ضربة جوية له وتدميره بالكامل. حافظ الأسد: لا بأس، لتدمره طائراتكم. الملك حسين: ليس لدينا قوة جوية تُذكر، وحسب اتفاقنا عليكم توفير غطاء جوي سوري– عراقي؟. حافظ الأسد: نعتذر جلالة الملك، فطائراتنا الآن تقوم برحلات تدريبية!. الملك حسين: أي تدريبات الآن؟، «دول الطوق» في حرب، وانتم تعهدتم بالمشاركة. حافظ الأسد: أعتذر مجدداً. تجميد القدرات القتالية الجوية السورية كان العربون الأول لإسرائيل، فيما جاء عربون توطيد العلاقات في سادس أيام الحرب، وتحديداً في العاشر من حزيران/ يونيو 1967، حيث دفع حافظ الأسد ب «البيان 66» الشهير، ليُذاع في إذاعة الجمهورية العربية السورية في اليوم السادس والأخير من الحرب. يُخاطب «البيان 66» الشعبَ السوري وشعوب المنطقة بالقول: إنّ «القنيطرة سقطت في يد العدو بعد قتال عنيف»؛ رغم أن القنيطرة لم تكن قد سقطت، ولم يصلها القتال بعد، ولتثبت الروايات الميدانية– تالياً– أن القنيطرة والجولان لم تسقطا في حرب، بل سُلّمتا إلى إسرائيل تسليماً في وضح النهار. وحين انكشف دور حافظ الأسد في الحرب «أُقيل» من منصبه، بإجماع «القيادة القطرية لحزب البعث»، لكنه تمكّن في 16 نوفمبر/تشرين ثاني 1970 من الانقلاب على الرئيس نور الدين الأتاسي، والاستحواذ على السلطة ثلاثة عقود تالية، أسس فيها للاستبداد والطغيان، وأرسى فيها رتلاً دموياً، لم ينقطع عن نسله. في الذاكرة السياسية– أيضاً- ثمة ملفات ما زالت تقطر دماً، حمص وحماه، وغيرهما من المدن، وأربعون ألف قتيل، ومعتقلات تبكي جدرانها ويلات ما زالت طي الكتمان، هي في جوهرها "مآثر" حكم الأب، بينما الابن سيرته مع الدم بدأت بقتل منافسه، ولم تنته بعد، فسلالة الأسد تقدّمت بعربون السلطة مبكراً، وأرست على مدى ثلاثة عقود (هي فترة حكم حافظ) بنيانها، القائم على أربع ركائز: أولاً: ضمان أمن إسرائيل وتفوقها، وتحييد الجيش السوري وتحطيم عقيدته العسكرية، والحفاظ على هدوء جبهة الجولان تماماً. ثانياً: القضاء على بؤر المقاومة الفلسطينية في سورياولبنان، وإخراجها من المنطقة المحيطة بإسرائيل، بما يحول دون قدرتها على مواجهة المشروع الصهيوني في فلسطين. ثالثاً: شق الصف العربي، والتأسيس للفرقة بين الدول العربية، عبر إلحاق سوريابإيران، وإنشاء محور سوري– فارسي هدفه تقويض أي مشروع نهوض عروبي في المنطقة. رابعاً: بناء نظام قمعي في سوريا، قوامه الأقلية العلوية، قادر على قمع أي تحرك شعبي، ووأد أية تطلعات شعبية نحو التحرر والكرامة. "الموت المُدبّر" عجّل ب "بشار الأسد" إلى سوريا، لتبدأ رحلة الإعداد، ليس في "الحِكمة" و"الحُكم"، بل في "الشهوة" و"الطغيان"؛ فالتحق عام 1994 بالجيش السوري برتبة نقيب، وفي عام 1995 رقي إلى رتبة رائد، ثم إلى رتبة مقدم ركن عام 1997، ثم إلى رتبة عقيد ركن عام 1999، ثم عين قائدا للجيش والقوات المسلحة منذ 11 حزيران/يونيو 2000. عُقب وفاة حافظ الأب، في 10 حزيران/ يونيو 2000، وهو اليوم ذاته الذي سلّم فيه القنيطرة للإسرائيليين معلناً الهزيمة، اجتمع البرلمان السوري وعدّل المادة رقم 83، في أسرع تغيير دستوري بالعالم، خلال اجتماع استمر "15 دقيقة" فقط، وفي تصويت جرى خلال "ثلاث ثوان" أصبحت المادة 83 من الدستور تنص على أن سن الرئيس يمكن أن تكون "34 سنة"، بدلاً من 40، وبذلك تمكّن بشار من تقلد منصب رئاسة البلاد، عبر استفتاء أجري في 1 تموز/يوليو2000. ترتيبات تسليم السلطة في سوريا لبشار، بحد ذاتها، تُعبر عن حقيقة "الشرعية" التي يزعم بها، وما إذا كانت شرعية شعبية ودستورية، أم تزييفا لإرادة الشعب والتاريخ عبر 15 دقيقة فقط، فهو وريث "سلطة انقلابية"، ومؤسس لفكر سياسي جديد في الحكم، وهو "الوراثة في الجمهورية"، كسابقة لم يشهد العالم مثيلها من قبل. بدأ "الطاغية الصغير" الحكم ب "مراجعات مزعومة"، بيد أن ذلك لم يكن سوى ذر للرماد في العيون، لحين تثبيت سلطانه، الذي استمده من إرث عائلي ممتد من الدموية والقمع والاستبداد، مترافقا "الإرث" مع "شهوة السلطة"، التي دفعته ليكون "القاتل" و"الوريث" في آن. مراجعات "وريث الجمهورية" كانت غريبة، ففي الوقت الذي تحدث فيه عن انفراج في الحريات العامة، وهي أشهر ما عُرف ب "ربيع دمشق"، أطبقت الأجهزة الأمنية قبضتها على الشعب السوري، لينكشف بعد عدة أشهر الوجه الحقيقي ل "الرئيس"، وتعاود المعتقلات فتح أبوابها للداخلين إليها دون عودة، وهي المعتقلات التي عُرِفت من عهد والده بعبارة "دخول"، التي تعتلي كل بواباتها، فيما لا تجد أبداً كلمة "خروج" على أي منها. إحكام القبضة الأمنية، رافقه إطلاق يد رجال الأعمال ورأس المال في الدولة، الذي سرعان ما خلق نخبة جديدة في سوريا، قوامها تحالف عتيد بين رجال المال والسلطة في دولة بالكاد يقوى غالبية شعبها على العيش بالحد الأدنى، مكرساً بذلك فجوة طبقية مهولة، أدت إلى انتقال قطاع شعبي عريض من حال "الصمت" و"القهر"، إلى حالة رفض الواقع والبحث عن غد آمن وكريم. طوال 10 سنوات استطاع "وريث الجمهورية" المحافظة على "كرسي الرئاسة"، فهو تارة يصمت عن الطائرات الإسرائيلية التي تستبيح أجواء سورية، فتقصف منشآت عسكرية واقتصادية في العمق وتعود دون اعتراضها، ليعلن بعد عودتها "سالمة غانمة" باحتفاظه بحق الرد؛ وفي تارة أخرى يُبلِغ الوسطاء الدوليين بأنه مستعد ل "مفاوضة إسرائيل دون شروط مسبقة"، متخلياً عن الجولان، التي ظلت "مسمار جحا" في "خطاب الممانعة والمقاومة الكاذبة"، الذي اختطه الأب. "قاتل شقيقه" لم يتورع عن قتل جاره، فهو متهم رئيسي باغتيال رجل لبنان الوطني والعروبي رفيق الحريري، ليزج بلبنان في أتون عاصفة جديدة، مُسلِماً إياها ل "حزب الله"، ذراع إيراناللبناني، الذي اختطف الدولة اللبنانية بعيداً عن سياقها العروبي، ساحباً الجيش السوري، بعد "احتلال" دام 30 عاماً (1975-2005). إلى جانب ذلك، واصل بشار الارتماء في الحضن الإيراني، فهو يدرك أن حكمه ليس مستقراً، ولن يدوم فوق "مِرجَل يغلي"، ويكاد ينفجر في أية لحظة، ساعياً إلى توثيق أوصال هلال خطته طهران، مروراً ببغداد فدمشق فبيروت، لتطويق المشرق العربي، وجعله رهينة في أيدي ملالي إيران. شكّل "الربيع العربي"، الذي انطلقت أولى موجاته في 2011 من تونس، رافعة للشعب السوري، المتعطش للحرية والكرامة، والرافض لنظام الأسد، الأب والابن معاً، ليتكشف للسوريين الوجه الحقيقي ل "الطاغية"، وهو ما كان في 15 آذار/مارس 2011، الذي شهد أول تجمع في دمشق للمطالبة بتغييرات، إلا أنها بعد ثلاثة أيام فقط تحولت إلى تظاهرات ثورية في محافظة درعا الجنوبية رافضة ل "نظام بشار". "تظاهرات شعبية سلمية"، قوامها بضع مئات من السوريين، تمددت في عدة مدن، للمطالبة بالحرية والكرامة، واجهها النظام بتحريك قطاعات من الجيش السوري لقصفها وقتل المشاركين فيها، في رسالة واضحة مفادها "الأسد" أو "الخراب"، ولم يقدم النظام مقاربة أخرى قابلة للحياة مع الرافضين له. ل "الطغاة" سنن ومذاهب، فمواجهتهم للاحتجاجات الشعبية تخضع لمعادلة دقيقة، تحكم تصرف مختلف الأطراف في "الأنظمة الاستبدادية"، التي تكون عملياً قد فقدت بريق ورهبة هراوتها الغليظة، وتساوت لدى مناوئيها قيم الحياة والموت، وفي اثناء ذلك تتشكل "نواة علاقة" قِوامها "عجز النظام عن الترهيب" و"فقدان القدرة على الترغيب"، وهنا تسقط قيمة "الهراوة" من العقل الشعبي الجمعي، وتنتصر نفسياً "اللا" الرافضة، ما يستدعي – في فهم الطاغية – قتل كل المناوئين، وهذا ما سعى إليه بشار منذ بدء الاحتجاجات. لم يكن بشار أكثر ذكاء من أسلافه، بن علي ومبارك وعلي عبدالله صالح والقذافي، لكنه كان أكثر طغياناً منهم جميعاً، فأفرط في قتل السوريين، وأعمل فيهم ما أوتي به الجيش السوري من قوة، مرتجياً واحدة من اثنتين، إما "قمع المناوئين ووأد الثورة"، أو "دفع المناوئين لحمل السلاح" ليملأ الكون دجلاً وبهتاناً واتهاماً لهم بالإرهاب. في المقابل، أدرك الشعب السوري، منذ اللحظة الأولى، أنه سيواجه طغياناً غير مسبوق، وأن خروجه عن صمته على "نظام الطاغية" لن يتيح أبداً العودة دون إسقاطه، وإسقاط نظامه الدموي، وبناء آخر قادر على ضمان مستقبل كريم للأجيال المقبلة، وهو ما يفسر تمسك غالبية القوى السورية الفاعلية، المسلحة والسياسية، برحيل الأسد كشرط أساسي في المواجهة المحتدمة. 5 سنوات، هي عمر الثورة السورية، مرّ خلالها "الطاغية" بعدة مراحل، وفقَد فيها القدرة تماماً على الحكم، فكيف لقاتل 250 ألف سوري أن يحكم السوريين؟، وبأي سند شرعي يمكنه فعل ذلك؟؛ وهي أسئلة تعمّقت مع فقدانه السيطرة على 70% من الأرض السورية، ولاحقاً فقدان سوريا الدولة للسيادة الوطنية، بعد أن استقطب بشار مرتزقة الإقليم للدفاع عن نظامه، وكذلك استدعاؤه رسمياً لجيوش حلفائه الإيرانيين والروس لمواجهة الإرادة الشعبية. على الأرض، لم يعد "الطاغية" يمتلك قراراً ولا سلطة، باستثناء ما يقصده المثل المصري الشهير ب "دمية خيال المآتة"، التي تستخدم كفزاعة أو تعبيراً عن غياب صاحب الحقل، ولكن في الحالة السورية "دمية برتبة طاغية"، هي المسؤولة الآن عن دماء تدفقت ولم تتوقف. مناصرو الطاغية يتحدثون عن "مؤامرة كونية"، تستهدف سوريا، فيما الحقيقة تؤكد وجود هذه المؤامرة، لكن من نسجها هو بشار تحديداً، إذ تمسك بالسلطة، ومارس الطغيان، وقتل شعبه، وشرد بضعة ملايين منه، ودمر البنية التحتية والفوقية للدولة، وتحالف مع قوى إرهابية ووظفها في التدليل على روايته حول الثورة، واستدعى مرتزقة حزب الله اللبناني والحرس الثوري الإيراني لقتل السوريين واختطاف سوريا، ومن ثم جلب الحامية الروسية ووظفها في جرائمه تحت لافتة "محاربة الإرهاب"، وأخيراً بدأ يتحدث عن استبدال الشعب السوري بأقوام أخرى وتعريفات جديدة من نوع "الشعب المفيد". وكذلك، لم تخرج كل تحركات "نظام الطاغية" عن غايته في تقسيم سوريا، وإنشاء ما بات يعرف ب "دولة الساحل"، بحماية الأسطول الروسي، في محاولة يائسة للبقاء رئيساً ولو على "كومة حطام"، وفي موازاة ذلك تمسكت أمريكا بفيتو حصول المعارضة السورية على سلاح نوعي قادر على مواجهة آلة الحرب. وكما هي سنة حافظ الأسد الاب، الذي دفع عربون اعتلائه السلطة لإسرائيل، دفع بشار العربون ذاته مجدداً، بتوفير حدود آمنة لإسرائيل على طول جبهة الجولان، التي يسيطر عليها مرتزقة حزب الله، ويشكلون فيها عازلاً بين قوات المعارضة السورية وخطوط هزيمة 1967، وهو ما دفع تل أبيب إلى الإعلان صراحة عن تمسكها ببقاء بشار. يطرب بشار، المخمور بالدم، كثيراً عند الحديث عن مصيره، فهذا يشي له بوجود فرصة للبقاء، حتى ان كانت "فرصة وهمية"، فهو ومختلف الأطراف يدرك تماماً استحالة بقائه في سوريا كلها، وليس في السلطة فقط، بينما المعنى الحقيقي لهذا الحديث هو إطالة سفك الدم، بالقدر الذي يفي بالإجهاض تماماً على "مشروع سورية المستقبل"، فيما ستجد دمية الطاغية وكل نياشينها مصيراً ليس بعيداً عن مصير القذافي، الذي قضى بين عصي الثوار.