من جديد تتأكد مقولة رئيس الحكومة البريطانية الشهير، ونستون تشرشل: «في العلاقات الدولية لا توجد صداقات دائمة». والمقولة إذا قيلت بصيغة أخرى مقاربة، تعني أنه في العلاقات الدولية لا توجد عداوات دائمة. إن ما يحكم التحول في هذه العلاقات هو الخلل في موازين القوة، وصراع الإرادات، وقانون المنفعة. ليس هناك من حدث سياسي في العقود الأخيرة، ما هو أكبر تطابقا مع مقولة تشرشل من التطور في الموقف الأمريكي تجاه الملف الإيراني، والذي كان من نتائجه توقيع اتفاقية فيينا، وأيضا التحول الأخير في العلاقة الأمريكية مع كوبا. فبعد أكثر من نصف قرن على التوتر والصراع والقطيعة السياسية بين واشنطون وهافانا، جرى تطبيع شامل للعلاقة بين البلدين، وأعيد فتح سفارتيهما. وتم رفع العلم الكوبي في واشنطون، والعلم الأمريكي فوق السفارة الامريكية بالعاصمة الكوبية، هافانا. لقد شهدت العلاقة بين البلدين توترات حادة، كادت في لحظة من التاريخ أن تشعل حربا نووية بين الاتحاد السوفييتي السابق، أثناء حقبة نيكيتا خروتشوف، والرئيس جون كنيدي في مطالع الستينيات من القرن المنصرم. وعرفت الأزمة في حينه بأزمة الصواريخ الكوبية. في هذه القراءة، سنقدم خلفية تاريخية للصراع بين البلدين، وسنناقش الأسباب التي أدت بإدارة الرئيس باراك أوباما لإقفال هذا الملف، ووضع نهاية للأزمة مع جمهورية كوبا الاشتراكية. وصل الرئيس الكوبي فيدل كاسترو، والمجموعة التي ارتبطت به، والتي ضمت ثمانين مقاتلا، من ضمنهم أخوه، الرئيس الحالي فيدل كاسترو والشخصية الأسطورية ارنستو تشي غيفارا، إلى السلطة بعد حرب عصابات، استمرت سنتين ضد نظام حكم عسكري يقوده باتيستا. حظيت حركته في مراحلها الأولى بتعاطف أمريكي، من قبل الرئيس ادوايت أيزنهاور والمؤسسة الصناعية. فقد اقتنعوا أن هدف الثورة الكوبية التي قادها فيدل كاسترو، هي إسقاط نظام استبدادي فاسد، وأن هدفها هو إقامة نظام ديمقراطي على الطريقة الأمريكية. ولذلك دعمت الثورة بالمال والسلاح والاعلام من قبل بعض الشركات الأمريكية البارزة. وحين انتصرت الثورة الكوبية عام 1959م، وطرح كاسترو برنامجه السياسي، وخططه لإدارة البلاد، تكشف نهجه اليساري لإدارة الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور، وكانت تلك هي لحظة التغيير في سياسة أمريكا تجاهه. كانت بداية توتر العلاقات الامريكية الكوبية قد بدأت إثر إعلان النظام الكوبي عن توجهاته الشيوعية بعد انتصار الثورة مباشرة. ومنذ ذلك الحين عملت وكالة الاستخبارات الامريكية بكل الوسائل على اسقاط النظام الثوري في كوبا، إما عبر محاولات اغتيال متكررة للرئيس الكوبي، أو عن طريق إحداث انقلاب أو غزو مباشر. وفي حمأة هذا التوتر اختار كاسترو الارتباط بالفلك الشيوعي، فعزز من علاقته مع الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية، وبقية البلدان الاشتراكية. وارتقت علاقته لاحقا بالسوفييت إلى مستوى التحالف، وعلى كل الأصعدة. كما طور من علاقاته من حركات التحرر الوطني في بلدان العالم الثالث، التي كانت تعمل على إنجاز الاستقلال السياسي من الفرنسيين والبريطانيين. وتعتبر محاولة إسقاط نظام فيدل كاسترو عن طريق تدريب واعداد المعارضة الكوبية، من أجل غزو كوبا فيما عرف لاحقا بغزو خليج الخنازير، أعلى ما بلغته وكالة الاستخبارات الامريكية من أعمال عدائية تجاه النظام الكوبي. لقد أدت حادثة خليج الخنازير إلى لجوء كوبا للاتحاد السوفيتي لطلب العون العسكري والسياسي في مواجهة التهديدات الامريكيةلكوبا. ولم يوفر الزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف، الذي كان يخوض حربا باردة شرسة ضد الولاياتالمتحدةالأمريكية وقتا. واستجاب بسرعة للطلب الكوبي. فقد وجدها فرصة أتته من السماء، لتحقيق توازن الجغرافيا المنافس اللدود. حيث كانت الولاياتالمتحدة تحتمي دائما خلف المحيط، بعيدا آلاف الأميال عن قلب العالم، حيث القارات القديمة الثلاث، بينما كانت حدود الاتحاد السوفييتي مكشوفة للولايات المتحدة من كل الجهات. قام خروتشوف، بنصب صواريخ عابرة للقارات، محملة برؤوس نووية في كوبا، التي لا تبعد سوى عدة كيلومترات عن ولاية ميامي، أعدت قواعد الصواريخ لتكون موجهة صوب القواعد العسكرية والمراكز الاستراتيجية الأخرى داخل الولاياتالمتحدة. وقد حدث ذلك بعد ان وصل جون كندي لسدة الرئاسة بفترة قصيرة. وكان نصب الصواريخ الروسية هو أول تحد استراتيجي كبير لدوره كرئيس للولايات المتحدة، وللأمن الأمريكي. أدى التصرف السوفييتي الخطير، إلى توجيه إنذار أمريكي للحكومة السوفييتية بأنه إذا لم يتم سحب تلك الصواريخ خلال 24 ساعة فسيتم ضربها بالسلاح النووي. وكان معنى ذلك نشوب حرب نووية بين أمريكا والاتحاد السوفيتي واندلاع حرب عالمية جديدة، لا تبقي ولا تذر. بقي العالم في حالة ترقب للنذر المرتقبة، ووجهت دول عديدة نداءات للرئيسين الأمريكي والسوفييتي، من ضمنهم بابا الفاتيكان من أجل التوصل لتسوية سياسية تحمي العالم من دمار محقق، إذا لم يتراجعا عن مواقفهما المتشددة. وفي الاخير وقبل انتهاء مدة الانذار توصل الفريقان إلى اتفاق تاريخي تعهد الاتحاد السوفياتي بموجبه بسحب الصواريخ المحملة بالرؤوس النووية من كوبا مقابل تعهد امريكا بالتوقف عن محاولاتها لإسقاط نظام الرئيس الكوبي فيدل كاسترو. تنفس العالم الصعداء، لكن العلاقات بين البلدين ظلت مقطوعة على كل الاصعدة حتى التحرك الأخير الذي قام به الرئيس الأمريكي باراك اوباما، في الشهور الأخيرة، والذي انعكس بنتائجه على تطبيع العلاقات بين البلدين. تعود فكرة ترويض الأنظمة المعادية للولايات المتحدةالأمريكية، عن طريق الاختراق الاقتصادي والثقافي إلى هنري كسنجر مستشار الرئيس نيكسون لشؤون الأمن القومي ووزير خارجيته فيما بعد. فقد تضمنت اطروحته لنيل الدكتوراة رؤية جديدة لمستقبل العلاقات الدولية، وتحديدا بين أمريكاوالصين الشعبية. كانت الولاياتالمتحدة في الحقبة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، تعيش حربا باردة ضروسا، وقد أضاف انتصار الصين الشيوعية، عام 1949 في حربها ضد حكومة شان كاي شيك، التي طردت من البر الصيني، إلى جزيرة فرموزا قوة إضافية، اعتبارية ومادية للمعسكر الشيوعي، وإلى الاتحاد السوفييتي بالذات. وحين استعر الصراع العقائدي بين الصين والسوفييت، وجد الأمريكيون في ذلك فرصة سانحة، لإضعاف الاتحاد السوفييتي. ركزت أطروحة هنري كيسنجر على أهمية تعميق شقة الخلاف بين الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية، الذي بدأ في حينه يتخذ شكل صراع عقائدي بين الحزبين الشيوعيين الحاكمين في البلدين كخطوة مهمة لترجيح كفة الغرب في الحرب الدائرة ضد الشيوعية. تلقف الرئيس ريتشارد نيكسون أفكار هنري كيسنجر، قبل رئاسته وعندما وصل نيكسون للبيت الأبيض، استدعى كيسنجر كمستشار له لشؤون الامن القومي. اقترح كيسنجر أن تبدأ العلاقات مع الصين بإرسال فريق كرة طاولة التنس، لتعبيد طريق العلاقات بين البلدين، وقد حدث ذلك بالفعل، وسافر كيسنجر للصين وقابل زعيمها التاريخي ماو تسي تونغ. ومنذ ذلك الحين حدث تحول كبير في العلاقة بين البلدين. فقد أعيدت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وتسلمت الصين الشعبية مقعدها الدائم في مجلس الأمن الدولي، بديلا عن الصين الوطنية، التي تسيطر على فرموزا. ونشأت علاقات اقتصادية متينة بينهما، استمرت حتى اللحظة الراهنة. وكان لهذا التطور الدراماتيكي، اسقاطاته المباشرة في سقوط تركة نظام ماو تسي تونغ بعد وفاته واعتقال أنصاره، وعلى رأسهم زوجته ومجموعة قليلة من أنصارها، عرفت بعصابة الأربعة، وانتهاج الصين لنظام اقتصادي مختلف عن ذلك، زاوج بين الاقتصاد الحر في علاقاته بالخارج، وبين الاقتصاد الموجه، والاشتراكي في الداخل. وقد ترابط هذا التحول بتغيرات ثقافية شملت اقبال الشعب الصيني، بشكل قل أن يكون له نظير، على المنتجات الامريكية والمطاعم السريعة، من نوع ماكدونالد وكانتاكي، وغدا للكوكاكولا بريقها الذي لا يضاهى بين المشروبات الخفيفة الأخرى، في الصين الشعبية. وهكذا تم الغزو الامريكي للصين بالاقتصاد وبريق الثقافة الامريكية بدلا من الصواريخ والدبابات، والحروب الدامية مكلفة الثمن. ومرة اخرى تكرر المشهد، حيث استغل الامريكيون هذه التجربة وعملوا بها في فيتنام، الدولة التي الحقت هزيمة منكرة بالجيش الامريكي. لقد تمكن الامريكيون في فيتنام عن طريق الاقتصاد والتأثير في الثقافات من تحقيق ما عجزوا عنه بالقوة العسكرية. وكما دخلت المنتجات الامريكية في الصين واسهمت في تغيير البنية الثقافية لهذا البلد الكبير، فإنها ادت نفس الدور في فيتنام. ما حدث مؤخرا من تحول أمريكي سواء من اتجاه كوبا أو اتجاه إيران، هو استعادة لرؤية كيسنجر في تحقيق اختراقات عملية من أجل تغيير السياسات في البلدان المستهدفة. وهو جزء من الصراع والتنافس المرير بين روسيا الاتحادية، التي عادت مؤخرا وبقوة للمسرح الدولي، تحت قيادة قيصرها الجديد فلاديمير بوتين، وبين الولاياتالمتحدة. وعلى الرغم من صعوبة الجزم بما سوف تؤول إليه العلاقات بين الولاياتالمتحدةوكوبا فإن تجارب الماضي قد أكدت بوضوح أن المستفيد الأول من هذه التحولات هو الادارة الامريكية. وهنا يمكن باختصار تفسير الموقف الأمريكي الأخير من إيرانوكوبا على أنه انتصار لقانون المنفعة، واستعادة لمقولة تشرشل، ليست هناك صداقات دائمة.