رحل اناتولي دوبرينين، اشهر سفير سوفياتي في الحرب الباردة، عن تسعين عاماً، عشية الاحتفال بتوقيع معاهدة «ستارت – 2» الاميركية – السوفياتية في براغ اول من امس، بعدما كان «الاب الروحي» لترتيب الاتفاق الاول بين القوتين النوويتين قبل 38 عاماً للحد من التسلح وخفض فرص استخدام الاسلحة النووية لحل الصراعات. ودوبرينين، الذي عُرف باسم «العم اناتولي»، خدم سفيراً للاتحاد السوفياتي لدى الولاياتالمتحدة نحو ربع قرن بين 1962 و1986. وعاصر ستة رؤساء اميركيين بدءاً من جون كينيدي حتى رونالد ريغان وستة زعماء للحزب الشيوعي السوفياتي منذ عهد نيكيتا خروشيف حتى عهد ميخائيل غورباتشوف. وكان شاهداً على فترات عصيبة اولها ازمة الصواريخ السوفياتية في كوبا ثم حرب فيتنام ومحادثات الحد من الاسلحة الاستراتيجية وحربي الشرق الاوسط (1967 و1973) والغزو السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا (1968) ولافغانستان (1979) والغزو الاسرائيلي للبنان في العام 1982. ولد دوبرينين، الذي عُرف لاحقاً باسم عميد السفراء السوفيات في واشنطن، العام 1919 لاب سباك وام غير متعلمة. لكنه درس هندسة الطيران قبل ان يتحول باوامر من جوزيف ستالين في منتصف الاربعينات الى الدراسة في المعهد الديبلوماسي في موسكو «لانه ذكي وملم بالانكليزية». وقال في مذكراته «ان تدريبي على الديبلوماسية كان خليطاً من تعلم اللغات ودروساً في الكياسة وحسن التصرف والاصغاء والحديث بصوت جذاب ومنخفض مع ابتسامة ساحرة». وقد تساءل الرئيس الاميركي السابق رونالد ريغن مرة عند الحديث عن دوبرينين مع مستشاريه عما اذا كان «هذا السفير السوفياتي شيوعياً ام رأسمالياً». بدأت معرفته بالعاصمة الاميركية العام 1952 عندما عُين للخدمة في السفارة متدرجاً لمدة ثلاث سنوات درس فيها الطبائع الاميركية وتعرف الى الصحافة واسلوب الحكم قبل ان يُنقل للعمل مساعداً للامين العام للامم المتحدة داغ همرشولد حين كانت اولى مهماته الرئيسية التحضير لقمة «الاربعة الكبار» في جنيف العام 1955 ثم لاعداد قمة فيينا بين خروشيف وجون كينيدي العام 1961. وبعد نجاحه في مهامه الديبلوماسية كوفيء بتعيينه سفيراً لدى الولاياتالمتحدة في آذار (مارس) 1962، وهو في الرابعة والاربعين، رغم كراهيته القوية للعاملين في جهاز الاستخبارات (كي جي بي) الذين منعهم من العمل في السفارة او التجسس على ما كان يقوم به في واشنطن بدعم وثقة من زعماء الكرملين. ومن بين اكبر نجاحاته تأمين حل سلمي لازمة الصواريخ الكوبية، عبر اتصالاته السرية مع روبرت كينيدي شقيق الرئيس الاميركي، وايجاد حل يُنقذ ماء وجه الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشيف الذي اضطر لسحب صواريخه من كوباً تحسباً من ان تهاجمها الولاياتالمتحدة التي قررت احتلال الجزيرة وانهاء حكم فيدل كاسترو. لكنه في المقابل نجح باقناع الولاياتالمتحدة بسحب صواريخها النووية من تركيا وايطاليا. كما اثبت دوبرينين كفاءة عالية في التعامل مع مستشار الامن القومي الاميركي هنري كيسينجر الذي تعاون معه في اقرار وقف النار على الجبهتين المصرية والسورية في حرب 1973 ومن ثم في وضع اسس لتسوية بين مصر واسرائيل لاحقاً. وكان دوبرينين تعاون مع كيسينجر في وضع الخطوط العريضة لاتفاق حظر الاسلحة الاستراتيجية العام 1972، والذي بقي الركيزة الاساسية للاستقرار النووي الدولي على مدى ثلاثين عاماً. ويُروى ان دوبرينين اقنع الكرملين بامكان التعامل مع الرئيس الاميركي السابق ريتشارد نيكسون، «المعادي جداً للشيوعية»، خصوصاً ان سادة الكرملين ابلغوه بعرض اموال للتبرع لحملة ترشيح الديموقراطي هيوبرت همفري الذي تنافس مع نيكسون على الرئاسة. واقتنع الكرملين بما قاله دوبرينين انه اذا تسربت انباء عن دعم سوفياتي للمرشح الديموقراطي ستنعدم فرص فوزه وستحدث كارثة في العلاقات بين البلدين. يُكر ان مجلة «تايم» قالت عنه عند وصوله الى واشنطن سفيراً «انه طويل وانيق شديد الثقة بنفسه ويبدو مع زوجته ايرينا مثل النخبة الاميركية». وطبعت فترة ولايته الاميركية رحلات صيد في فلوريدا ومحاضرات شيقة امام نخبة من خريجي هارفارد والجامعات الاميركية الرئيسية.