إن انخفاض أسعار النفط واستمرار هبوطها للسنة المقبلة، يبين أنه لا أحد يعرف العواقب المترتبة على الأطراف السياسية الفاعلة إقليميا وعالميا.. كون النفط ليس فقط سلعة مهمة، بل كونها سلعة استراتيجية للحرب والسلم وعاملا فعالا في الاستقرار وفي عدمه، ولن يكون أحد بمنأى عنها أو مأمن منها.. وربما ستكون كافية لتنشيف الاحتياطيات المالية (البترودولار للدول المصدرة للبترول ووضعها على عتبة التقشف والترشيد. ولكن يبقى الرابح الأكبر في كل هذه التحولات السعرية الجذرية للبترول وبالتأكيد هو أمريكا وأوربا، وقد بدأنا نرى ذلك في الاقتصاد الامريكي والاوربي وتوجهه تلك الاقتصاديات التصاعدية على مدى هذه الفترة الوجيزة منذ انخفاض الأسعار.. هذا بشكل عام.. فمن الرابح ومن الخاسر فعليا وبشكل خاص من جراء انخفاض أو بمعنى آخر انهيار الاسعار البترولية. وما هي تداعيات انخفاض اسعار البترول على اللاعبين الآخرين.. تأتي ميزانية المملكة للعام المالي 2015 في ظل تلك الظروف الاقتصادية الاستثنائية، التي اتسمت بانخفاض حاد لأسعار النفط، وانحدارها لما دون ال 60 دولاراً للبرميل، بعد أن كانت فوق ال 120 دولاراً، لأهم مصدر دخل، واستقرارنا، وإنفاق الدولة العام، وازدهارنا الاقتصادي؛ كونها السلعة الوحيدة، والعمود الفقري للاقتصاد؛ وما تنذره من سنوات عجاف قادمة بعد عدد من الميزانيات التي اتسمت بفوائض كبيرة؛ بسبب أسعار البترول العالية، وكذلك باتباع سياسة مالية متحفظة تحقق على أثرها انخفاض نسبة الدين العام للناتج المحلي الإجمالي لنحو 60.1 مليار ريال سعودي او ما يعادل حوالي اثنين في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وبناء احتياطي مالي كبير قدر بنحو سبعمائة مليار دولار، يؤهل الدولة على الاستفادة من الصرف من الاحتياطي العام، وكذلك من الاستفادة من سوق الدين العام واستمرار الانفاق والتنمية في فترات العجز المالي، وانخفاض الإيرادات، والتي تتوقع وزارة المالية أن يصل الدين العام بنهاية العام المالي الحالي إلى 44.2 مليار ريال سعودي أو ما يقارب 1.6% من الناتج المحلي الإجمالي المتوقع لعام (2014م). ولأول مرة بتاريخ المملكة يتجاوز الإنفاق الفعلي 1 تريليون ريال سعودي لعام 2014م، مما يعني أن عام 2014م كان العام الأضخم في تاريخ المملكه للإنفاق الحكومي، حيث توضح النتائج المالية لعام 2014م المالي الحالي، أن الإيرادات الفعلية وصلت إلى 1046تريليون وستة وأربعين مليار ريال سعودي، أي بزيادة نسبتها 22.3% عما تم تقديره في تلك الميزانية، أي بما يعادل تسعين في المائة منها تمثل إيرادات بترولية، وكانت المصروفات الفعلية 1100 مليار ريال سعودي بزيادة نسبتها 28.7% عن المقدر في الميزانية أي بعجز فعلي بلغ 54 مليار ريال سعودي. وأما ميزانية العام المالي القادم (ميزانية 2015م)، فلقد قدرت الإيرادات العامة بمبلغ 715 مليار ريال سعودي، بانخفاض قدره 140 مليار ريال، بنسبة 16.4% عن المقدر في العام الماضي. وحددت النفقات العامة بمبلغ 860 مليار ريال سعودي، أي بزيادة طفيفة قدرها 5 مليارات ريال بنسبة 0.6% عن المقدر في العام الماضي، وذلك اعتمادا على الاحتياطات المحققة من السنوات الماضية، رغم انخفاض الايرادات نتيجة انخفاض أسعار البترول بشكل كبير، وتوقعات باستقرارها عند مستويات ال 60-70 دولارا للبرميل، أي أن الإيرادات العامة المقدرة للعام القادم 2015م انخفضت بحوالي 16.4% بنحو عجز 140 مليار ريال سعودي، والذي سيمول من الاحتياط أو الاقتراض لتمويل العجز. وربما نرى أن فينيزولا في مطلع العام القادم هي الخاسر الأول والأكبر خسارة من انخفاض البترول، وسينعكس ذلك على اقتصادها الهش، والذي سيكون ضاغطا على نظامها السياسي، وربما يصلها رياح الربيع العربي ويكون كافيا لتغيير النظام السياسي الفنزولي برمته. أما روسيا الاتحادية فمن المحتمل وعلى المدى المتوسط خضوع النظام السياسي الروسي لتغييرات جذرية، ربما ترقى إلى وصفها بالانقلاب على النظام السياسي الروسي؛ بسبب الأزمات المالية الخانقة، والتي بدأت تتعرض لها روسيا، فالدول الأوروبية قاطعت -بدورها- روسيا في المقام الأول، وذلك بهدف الضغط عليها فيما يخص ما حدث في أوكرانيا، وكذلك الملف السوري، وتتحمل تكلفة اقتصادية كبيرة، حتى أن 25% من تعاملات ألمانيا الاقتصادية كانت مع روسيا، ورغم ذلك قاطعتها، وبدأنا نشهد تأثيراته المباشرة على روسيا، وسيتصدع النظام السياسي لدخول روسيا في كساد كبير.. فانهيار أسعار النفط بهذه الوتيرة انعكست -وكما هو ملاحظ- وبشكل مباشر على عملة الروبل الروسي، وذلك بفقدانها أكثر من أربعين في المائة حتى الآن؛ لأن انخفاض أسعار النفط سبب ضغوطا كبيرة على مواردها الاقتصادية، التي تعاني أصلا من العقوبات الأمريكية الأوروبية. ولربما يستغرب الكثير في أن النظام الإيراني الداخلي سيكون آخر المتضررين؛ نظرا لأن اقتصادها قد عانى في السابق من العقوبات الدولية، وهو الآن مستقر نوعا ما، ومن الثابت أنه قد صمد على مدى السنوات العشر من العقوبات الاقتصادية، وانخفض اعتمادها على وارداتها المالية من البترول إلى أقل من الربع وعائداتها المالية من البترول تشكل في الوقت الحالي جزءا يسيرا من مدخولها المالي أي أقل من الربع. كما أن الولاء السياسي مبني على نظامها الأيديولوجي أكثر منه منفعي. ولكن انخفاض اسعار البترول، سيقلص دور إيران، ويؤدي الى اضعاف دعمها ومواقفها من النظام السوري واليمن والبحرين ومحاولة التدخل في الشؤون الداخلية لدول الخليج. فالتأثيرات ستكون كارثية على اقتصاديات كل من روسياوإيران، وبالتالي سينعكس على مواقفهم السياسية تجاه الأحداث العالمية، التي ستتغير ربما في السنة القادمة، أي خلال العام المقبل (2015). ولكن يبقى السعر المنخفض للبترول عاملا فعالا في دفع عجلة النمو الاقتصادي العالمي، مما يعني استقرار الاسعار عند الخمسين دولارا على مدة العام المقبل ثم تبدأ الأسعار بالانتعاش وفقاً لازدياد الطلب على النفط.