1 الداخل مفقود والخارج مولود قبل أن يغادر السيد جيمس بينيت - مراسل صحيفة نيويورك تايمز - المكتب الذي كان يتولى ادارته في القدسالمحتلة منذ 2001، الى واشنطن - مكان اقامته الجديد - أراد ان يتحف جريدته بدرة صحفية، فاختار أن يكتب بورتريت للجنرال شارون حاكم اسرائيل، وقد فعل ذلك بعد أن أجرى معه مقابلة، كما تقتضي الأصول، ويمكن اليوم مطالعة المقالة المطولة في نفس الجريدة (نيويورك تايمز ماغازين) تحت هذا العنوان المثير حروب شارون. وهي فعلا تستحق القراءة، لعدة أسباب، منها أن بينيت كاتب جيد وله أسلوب جميل يقرب السياسة من الأدب، ويحول التحليل الثقيل الى تفاصيل ريبورتاج قصصي مشوق. والسبب الثاني، أنه رجل عاش داخل اسرائيل كإعلامي محترف، واقترب من الجماعة الحاكمة، بحيث يأخذ المعلومة من مصادرها. والسبب الثالث، أنه كتب كلاما متزنا، يمكن قبوله لدى الطرفين (الاسرائيلي والعربي) وإن كان حتى في اتزانه قد جعل من شارون رجلا لا يوجد لدى الامريكيين زعيم مثله! ونحن نقول: لحسن حظهم طبعا، ولكن بينيت يرى ربما أن شارون يجمع كلا من أندرو جاكسون وجورج باتن وروبرت موزيس، معا! وهذا كثير على شارون، ومسكين جورج باتن الذي كان من اعظم القيادات التاريخية للحلفاء، في حين أن شارون متهم بجرائم حرب، كمجزرة قبية التي يذكرها جيمس بينيت نفسه في خضم حديثه بعد ذلك عن مآثر الرجل! على أن الاضاءة الجديدة التي يقدمها بينيت تخرج شارون بشكل سوف يجعل كل من بقي لديه أوهام عن السلام مع اسرائيل في عهده، يدفنها في قبر عميق وينساه. ليس هذا وحسب، فشارون بعد كل حساب شخص، وهو أيضا لم يعد في ريعان شبابه، ومن ثم فقد يغيب فجأة، بلا رجعة. ولكن المشكلة لن تنتهي بغيابه. فما هو واضح أن شارون، الذي كما يقول بينيت، يستعمل الآخرين جميعا (بما في ذلك الاحزاب والاشخاص والجيش) كأدوات، قد يكون هو نفسه أداة لما يتجاوزه. أي أن الدور أكبر من الممثل (او اللاعب )، وأن هذا الأخير قد يمضي، ولكن الدور باق ليأخذه غيره.ولنبدأ بالعلاقة مع أمريكا.. رأى شارون في الرئيس بوش حسب بينيت، لا حليفا وإنما فقط رجلا قد تكون أجندته مخالفة لأجندة حاكم اسرائيل. كانت أحداث 11 سبتمبر مثلا فرصة لكي يذكر شارون الرئيس الامريكي بأنه إذا فكر في ارضاء العرب فإنه قد يكون بذلك يسلك نفس الطريق التي مشت فيها أوروبا عندما ضحت بتشيكوسلوفاكيا سنة 1938 حتى لا تغضب هتلر. وهذه فعلا عبارة قالها شارون آنذاك وأثارت العديد من التعليقات في حينها. وشارون، كما يذكر بذلك بينيت أيضا، معروف بهذه الفورات التي كانت آخر ضحاياها فرنسا، عندما وصفها حاكم اسرائيل بأنها بؤرة اللاسامية، داعيا اليهود الفرنسيين للرحيل الى اسرائيل. ولكن يعتقد بينيت - الذي كما قلنا قضى السنوات الثلاث الاخيرة هناك - وهو رجل مطلع انه بالرغم من الخطر الذي يراه شارون مهددا لليهود في الخارج، فإن المهاجرين الجدد الى اسرائيل قليلون اذا قورنوا بالفارين منها كل عام. وهو إذ يقدم رقم 24.652 عن القادمين الى اسرائيل في السنة الماضية، لا يورد ما يقابله بالنسبة للراحلين منها، كاشفا لنا - بين السطور- حقيقة أن الحكومة الاسرائيلية لا تريد اثارة هذا الموضوع، ولذلك فهي تخفي الارقام. ويمكن أن نفهم هذا طبعا، في الوقت الذي يبدو فيه أمن المواطن الاسرائيلي خاضعا لأول عملية فدائية يقوم بها فتى في الثامنة عشرة من سنه. قلة هم الاسرائيليون الذين مازالوا يعيشون اليوم تحت تأثير خرافة بلد اللبن والعسل، فما وجدوه في الحقيقة هو الدم والدموع. لذلك، ليس من الغريب أن لا توجد أرقام عن اليهود الراحلين عن اسرائيل، في الوقت الذي تتباهى فيه كل الحكومات الاسرائيلية بأرقام (حقيقية أم خيالية، هذه قصة أخرى!) عن المهاجرين الجدد اليها. 2: رفض العرب يقول جيمس بينيت انه سأل شارون إن كان يعتقد أن حرب الاستقلال - الاسرائيلي!- انتهت. وكان الجواب أنه خلافا لعام 1948، فإن لإسرائيل اليوم معاهدتي سلام مع جارتيها مصر والاردن. وأضاف : بيد أن هاتين المعاهدتين أبرمتا بين الزعماء... فهذا ليس سلاما بين الأمم أو الشعوب. والمشكلة الرئيسية تبقى أن العرب ليسوا مستعدين بعد (...) للاعتراف بحق الشعب اليهودي في دولة يهودية مستقلة على أرض أجداده.وهذا كلام خطير، بل خطير جدا. فهي أول مرة، منذ توقيع معاهدتي السلام المذكورتين، يعترف فيها رئيس وزراء اسرائيلي موجود في السلطة بأن المعاهدتين مع مصر والاردن لا قيمة لهما. فالقول انهما وقعتا بين الزعماء وانهما لا تربطان الشعوب، يعني أن شارون لا يشعر بأن لديه أي التزامات تجاه مصر (حيث أن موقعي المعاهدة: السادات وبيغن، خرجا من السلطة). ويذكر بينيت أن شارون يحب كثيرا استذكار نصيحة أسدتها له والدته في مطلع الثمانينات عندما كان يتفاوض مع المصريين. فقد قالت له: لا تصدقهم ولا تثق فيهم، فأنت لا يمكن أن تثق في قطعة من الورق! هذه هي عقلية حاكم اسرائيل الحالي ملخصة في بضع كلمات: انه لا يثق بمعاهدات السلام لأنها ليست سوى قطع من الورق تربط زعماء، ما أن يغيبوا عن المسرح، حتى تغدو تلك الاوراق التي وقعوها صالحة للزبالة! تصوروا ماذا يكون الحال لو كان شارون رئيس وزراء بريطانيا أو رئيس الولاياتالمتحدة، في مرحلة الحرب الباردة مثلا: ألم يكن قادرا بهذه العقلية على اشعال فتيل حرب عالمية أخرى؟ - لأن الأوراق لا قيمة لها ! لقد أصغى الى أمه - وأنا أشك في أنها مثقفة أو حتى قادرة على فهم السياسة ولم يصغ الى عقله. هذا الرجل اختاره الاسرائيليون ليحكمهم! وعندما يسأله بينيت عن رأيه في العرب، يجيبه شارون بسؤال آخر: منذ متى وانت تعيش في هذه المنطقة ؟ فيقول الصحفي: إنه مقيم هناك منذ ثلاث سنوات. يقول شارون: إذن من الصعب عليك أن تفهم، ينبغي أن أقول لك: انه من الصعب علي أن أفهمهم، مع أنني مولود هنا. ثم يردف: هذه المنطقة امبراطورية من الأكاذيب. إنهم ينظرون في عينك ويكذبون. من الصعب عليك أن تفهم هذا. ولكن هذه هي الحال هنا. لذلك يتعين عليك الحذر. فهنا، في هذه المنطقة، التصريحات والخطب والكلمات لا قيمة لها. وقد يقول قائل: لعل شارون كون لنفسه تصورا خاصا عن أهل المنطقة أضاف اليه الكثير من خصائص نفسيته، ونسي ذلك. وهذا ما يسمى في علم النفس: الاسقاط. وما يبرر رأينا هو التاريخ الشخصي لشارون. فبينيت يذكر أن هذا الاخير عرف بن غوريون عن كثب، وكان رأي الزعيم الاسرائيلي الاكبر فيه ما يلي: لو تخلص فقط من عيوبه المتمثلة في عجزه عن قول الحق والابتعاد عن النميمة، فإنه سيكون قائدا عسكريا استثنائيا. فعيوب شارون كثيرة، ولكن أن يقول عنه بن غوريون منذ 1960، انه كذاب نمام، فهذا ما يشكر عليه الصحفي الامريكي لأنه ذكر به. ويعتقد شارون أن محكمة لاهاي أصدرت حكما لاساميا عندما قالت: ان الجدار الذي هو بصدد بنائه غير قانوني، فهو نوع من حرمان اليهود من حقهم في أن تكون لهم دولة مستقلة. ولكن بينيت يعلق مذكرا بأن حكم محكمة العدل الدولية كان ضد اسرائيل وليس ضد اليهود. والمشكلة كما قلنا سابقا، أن شارون هو نموذج لعقلية موجودة. وتتمثل أيضا فيما قاله أحد مستشاريه لجيمس بينيت بخصوص جدار الضفة الغربية: مانريده حقا هو أن ندير ظهورنا للعرب وألا نتعامل معهم مجددا. إننا لا نريد أن يقبلونا في الشرق الأوسط. يعني أن اسرائيل هي التي ستقاطع العرب، وليس العكس. والجدار الذي تبنيه في وجوههم وفي وجه القانون الدولي، دليل قائم على هذا الاتجاه. @ عن جريدة "العرب" بلندن