عمره لم يتجاوز الخامسة عشرة، قامته الصغيرة بدأت تطول، تبدو براءته في ملامحه الجميلة.. وفي يده الصغيرة، التي تقبض على جواله بحنان، وهو يخطو نحو باب المرسم حاملا (ترمس) الشاي.. قال وهو يضع الشاي بجانبي (ان شاء الله يعجبك.. أنا اللي سويته لك)، قالها وهو يبتسم بحب، وأضاف (أبوي تحب أساعدك في شيء.. خدمات. بس لا تنسى يا بو عبدالله كل شيء بحقه!!)، أحسست بأنه يخفي شيئاً ما في عينيه! تمنيت لحظتها وأنا أتطلع إلى ملامحه ان اسبر أعماقه، واكتشف هذا الشيء الغامض!!.. يحلو لي دوما حضوره إلى المرسم، ويشدني إليه اكثر من بين اخوته.. مواهبه الإبداعية في الرسم والتصميم، وحتى تمكنه من الكمبيوتر والتعامل مع الإنترنت.. كنت لا أتردد أن اطلب منه مساعدتي في بعض الأعمال الكمبيوترية العاجلة!! فجأة قال: قبل أن أروح تأمرني بخدمة؟ أجبته إذا احتجت شيء كلمتك.. خرج بعد أن قبل رأسي، ويده تعبث بخصلات شعره الحريرية.. ومنذ تلك اللحظة لم أشاهده بعدها، إلا وهو ممدد على سرير الإسعاف، والدم ينزف من انفه ويده اليمنى المهروسة ملفوفة بالشاش.. (يا لله.. يا لله) رددتها اكثر من مرة وأنا أهيم في عوالم الأدعية والرجاء والتوسل بأن يلطف به الله، والأطباء من حولي يحاولون التخفيف عني ومواساتي بكلماتهم المحبة الصادقة، وأنا ألمح في عيون بعضهم مدى صعوبة حالته.. وخطورة تأخير بتر يده، وضرورة أن اتخذ القرار في الحال.. دموع حارقة انسابت على خدي.. دموع صامتة، ولأنني لم أتعود يوما السخاء بهذا الكم من الدموع.. اللهم إلا في حالات نادرة، وعندما تأخذ الجراح كما يقولون منا مأخذا، فاننا نبكي ونحن لا نستطيع حجب دموعنا فهي لحظتها كالشمس إذا أخفينا أشعتها عنا، فحرارتها تصلنا، ولحظتها نكون كالأموات، أو كما يقول الشاعر الدكتور حسن فتح الباب: لا تنظر الدمع في الأحداق.. الدمع ترسب في الأعماق والموتى لا يبكون والموتى لا يشكون!!. وعادة عندما نبكي فأننا لا نبكي إلا نفوسنا.. نفوسنا الحزينة المتعبة الضعيفة.. لأنه ما من أحد يبكي مآسيها معنا.. وكم آلمتني لحظتها نظرات الناس المشفقة والمواسية، ولسان حالهم يقول ويردد معي لا حول لنا ولا قوة إلا بالله.. نعم لا الأطباء ولا أحد قادر لحظتها على إنقاذ (محمد) إلا الله.. فاستسلمت وصليت واستخرت، ووقعت بعدها الإذن ببتر اليد.. وكأنني انتزع جزءاً من جسدي، تصور كيف يكون شعورك لحظتها وأنت تتخذ مثل هذا القرار الصعب والمؤلم.. تبا للإنسان ما أضعفه.. انه يقف عاجزا في الكثير من الحالات لا يستطيع فعل شيء إزاءها، وبالتالي يدرك حجم ضعفه وقلة حيلته أمام إرادة الله!! سبحانه وما أعلى شأنه.. وعندما كنت أزوره، وهو تحت رحمة الله في العناية المركزة، كنت أشاهد العديد من الأهل و المعارف والأصدقاء وهم ينتحبون، بعضهم مثلي ينتحب في صمت، والبعض الآخر تختنق عبراتهم مع نشيجهم.. وبكت أمه كثيرا، ولكن بكاءها اختلف عن بكاء الآخرين. انها على الفراش منهارة تتمزق ألما، وترتعد، في عينيها احمرار، وعلى شفتيها جفاف، وعلى محياها ظلال الصدمة وهول الفجيعة.. ما ارهب الساعات التي قضتها طوال الأيام وهو ممدد تحت أجهزة الإنعاش.. والاتصالات العديدة والزيارات الكثيرة من الجميع، أهل، معارف، أصدقاء، ناس لا نعرفهم، ناس جزاهم الله عنا خير الجزاء، كان لوقفتهم معنا في مصابنا لمسة حب ومشاركة وإيثار.. كم هو رائع مجتمعنا.. و كم هو طيب وحبيب، كانت لمواساتهم وبعدها تعازيهم عظيم الأثر في التخفيف من هول الموت الذي اختطف محمد أوسط الأبناء، أو كما قال الشاعر القديم: ==1== بكاؤكما يجدي وإن كان لا يشفي==0== ==0==فجودا فقد أودى شبيهكما عندي توخى حمام الموت أوسط صبيتي==0== ==0==فلله كيف اختار واسطة العقد على حين شمت الخير من لمحاته==0== ==0==وانست من أفعاله آية الرشد==2== نعم يا محمد اختارك الموت وأنت في بداية خطواتك نحو الفتوة والشباب، وأنت تحلم بمستقبل باسم.. ولا تعلم ان عمرك قصير كعمر الزهور، فلا بطاقة الأحوال التي تريد ان استخرجها لك حصلت عليها.. ولا الشهادة العليا التي كنت تتطلع إليها يوما ما.. فقط حصلت الآن على شهادة وفاة، إثر حادث أليم!! حادث أصابك في مقتل.. وحرمك من الحياة، وحرمنا منك، ومن مواهبك وقدراتك، فلا حول ولا قوة إلا بالله.. وكحلم جميل بددته يقظة، وكفكرة رائعة من مخيلة مبدع وكنسمة عذبة هربت في الأفق، وضاعت في السماء.. هكذا كنت يا محمد، وهكذا تواريت أنت عنا وعن هذه الدنيا الفانية. بالأمس كنت تشرق أمامي بابتسامتك العذبة، وكلماتك الهامسة الساخرة، بالأمس كنت تعلمني الكثير الكثير من عوالم الكمبيوتر، التي اجهل بعضها.. كنت بنظراتك المحبة وإيماءاتك تدفعني إلى التطلع إليك، ومشاهدتك وأنت تتفنن في التصميم والرسم، وكنت اهمس في أذنك: سوف تكون افضل من شقيقك فيصل في الرسم والتصميم!! ومازلت اذكر يا محمد إجابتك على سؤالي: لماذا اختيارك لاسم خيال لموقعك في الإنترنت؟.. فأجبتني وأنت تبتسم: كل شيء في الدنيا خيال، حتى الحياة خيال!! بالأمس وما أروعه وأنت بيننا كنت أنشودة شبابية في كل يوم.. أنشودة بين اخوتك وبين محبيك من أصدقائك الكثر.. أنشودة فتية على كل شفة.. وأمنية لنا جميعا.. وواحة يبحث عنها محبوك!! آه يا محمد كم هو الفراق صعب ومميت، بالأمس ونحن نتلقى العزاء، ويذكر البعض محاسنك، ويعدد مزاياك، قال أحد أصدقائك انه سألك عن اختيارك للون الترابي لموقعك، فأجبته لان التراب هو الأصل، فنحن من تراب وإلى التراب، هكذا أجبته، ترى هل كنت تعلم يا حبيبي بمصيرك السريع والمؤلم والفظيع، بعدها بأيام أصبحت تحت التراب، اللون الذي أحببت!! وهل كنت تعلم ان الشاي الذي عملته لوالدك في ذلك الصباح الباكر كان آخر شاي تعمله لوالدك الذي احبك، ما أروعك وأنت ترسل لي رسائلك الجوالية التي تحمل طلباتك وتعليقاتك.. ما أجملك وأنت تحسن وضع غترتك وعقالك الصغير أيام الأعياد والمناسبات.. ما أبهاك وأنت عائد من المسجد. والآمال والطموحات كانت تتلألأ في وجهك.. هذا كان بالأمس، أما اليوم فقد هرب منا القمر، وضاعت من أجواء بيتنا ابتساماتك وصدى كلماتك، وتاهت عن سطح بيتنا النجوم.. اليوم خرست زقزقة العصافير التي كانت تحط على شجرة النخيل، وباتت الشجرة جافة.. رسوماتك وكلماتك عدت إليها اليوم. لاسترجع ما فيها من وهج وبساطة وجمال.. وريقات بللتها بالدموع. حروفك الصغيرة وخطوطك الرائعة كم أحببتها. أتذكر كم مضى علينا من وقت ونحن نعمل معا.. أتذكر أول (ايميل) اكتبه تحت إشرافك، كان لشقيقك عبدالله، الذي احبك حتى العظم.. آه لو رأيت كيف اجتمع هذا العدد الكبير من الناس الذين حضروا جنازتك، وهم يشاركوننا فجيعتنا فيك.. آه لو رأيت الناس، وهي تتسابق لتعزيتنا فيك يا حبيبي. والآن يا بني سامحني وأنت الآن تنام قرير العين بمشيئة الله.. بعيدا عنا.. سامحني يا بني أنني لم انشر رسوماتك في معرض، ولا حتى في جريدة، خوفا من ان يقول البعض: (أن والده يرسم له)، وكما قال البعض أنني كنت اكتب لشقيقك عبدالله، فالبعض لا يؤمن بالموهبة والقدرة!!.. سامحني إذا كنت قد حرمتك يوما من أشياء تحبها، لم أحققها لك، وأمور كثيرة كنت تسعى للحصول عليها، لم تتح لي الظروف توفيرها لك ولاخوتك.. سامحني يا حبيبي لأنني لم استطع إنقاذك لحظة وقوع الحادث، فالأحساء مثل بقية المدن لا توجد فيها طائرة إسعاف سريعة تباشر الحوادث.. وسامحني يا بني أنني لم استطع أن امنع صغار السن من أصدقائك من قيادة السيارات.. فالحوادث المميتة التي يسببها كل يوم العشرات من أمثالهم باتت علامة ممجوجة في مجتمعنا.. وسامحني يا بني أنني لم استطع حتى معاتبة صديقك الصغير الذي قاد السيارة بسرعة جنونية، فكان الحادث المميت، فعرفنا الاجتماعي وتقاليدنا جعلتني عاجزا عن ذلك.. وماذا ينفع العتاب عندما يذهب الأحباب!! وسامحني يا بني أننا في هذا الضياع المروري، وتوفر السيارات لكل من هب ودب، حتى الذي في فمه مصاصة بإمكان والديه شراء سيارة له، سوف يستمر مسلسل الحوادث في بلادنا الحبيبة. وسوف يستمر الموت والفجيعة.. وسوف يبرر أهل السائق المتسبب في الحادث أو ذاك (لم يكن يقصد)، وبعدها سوف نبلع الدموع، ونحتضن الفجيعة بين الضلوع، ونخفي إنكساراتنا وموتنا الصامت عن عيون الآخرين!! كل يوم ماذا نحصد؟ المزيد من الإهمال واللامسؤولية.. كل هنيهة. كل ساعة حادث هنا وحادث هناك، وفتش بعدها عن اللامبالاة. يطاردنا الموت يا بني عبر الطرقات والشوارع السيئة التنفيذ، فحفرة هنا وانحناءة غير مستقيمة هناك، تفاجىء السائق، لينحرف عنها أو يتفاداها، فيقع حادث غالبا قد يكون مميتا.. سامحني يا بني إن واقع شوارعنا خاصة في الأحساء لا يسر أحدا، حتى الشارع الذي أمام منزلنا المتواضع والمزدان بالبثور والقشور، والذي شبهته رحمك الله يوما بلوحة تجريدية ممجوجة، وطلبت مني ساخرا أن ارسم كاريكاتوريا ساخرا عن واقعة المزري.. سامحني يا بني أنني عاجز عن الكتابة، ومهما أوتيت من قدرة فأنا لا أستطيع اليوم ان اكتب عنك ما أريد، فالكلمات تخنقها العبرات، وتمتزج معانيها بالنشيج.. أنت تعرفني يا بني للكتابة عندي مزاج، ولا احب الكلمة إلا عفوية صادقة لتدخل القلب بدون أذن! سامحني يا بني فمصابي فيك كبير كبير.. لأنني لن أراك بعد الآن، وأنت تحتضن كتبك المدرسية.. أو تمازح اخوتك.. لن أراك الآن وأنت تمارس هوايتك الإنترنيتية، ولا حتى مداعبة شقيقك الصغير مصعب، وتشاركه اللعب في الألعاب الكمبيوترية الساحرة.. لن أراك الآن وأنت عائد من المسجد.. أنني الآن أشفق على نفسي.. ولكنى سوف أذكرك مع كل الأشياء الجميلة التي أحببت... وسوف أبكيك لأنني إنسان واردد سبحانك يا ربى أعطيت وأخذت والحمد لله على كل شيء (إنا لله وإنا إليه راجعون).