ربما كان حلما حاول سعيد الغانمي ان يحققه في كتابه (مائة عام من الفكر النقدي) حلم قراءة مسيرة النقد الادبي بوصفها متوالية سردية او حكاية وهذا ما حاوله اذ لم يتكئ على الزمن في افقيته بهدف كتابه تاريخ النقد الادبي في العراق وانما سعى الى تقديم قراءة لمسيرة النقد الادبي بوصفها حكاية تتضمن لحظات يمكن الوقوف عندها لاضاءتها حكاية بطلها الخطاب النقدي كونه خطابا فاعلا يتصل بخطابات اخرى. ويتضمن مجموعة من البؤر الدلالية البارزة التي مرت بفضاءات اثر كان لها تأثير مفصلي حاسم وحاول الغانمي تجنب ربط النقد بالظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وانما ربطه بالظرف الثقافي الشامل. الافندية والنقد الدستور العثماني الذي صدر عام 1908م وعده الغانمي مناورة سياسية الا انه تسبب في ايقاد ثورة صحفية هائلة في العراق كان لها دورها في تغيير الادب تغييرا جذريا فقد نقلت النقد من الشفاهة الى الكتابة، الشفاهة التي اندثرت باندثار اللحظة التي انطلقت فيها فلا نظرية نقدية بل نظرية شفاهية معاصرة. في هذا الوقت الذي انطلقت فيه ثورة الصحافة تشكلت طبقة حاولت التعبير عن نفسها الى جانب الطبقات الاخرى وهي طبقة الانتليجنسيا الثقافية التي اطلق عليها حينها طبقة الافندية واصبح لها صوتها حاولت هذه الطبقة تجاوز الخطابية والمنبرية والمشاركة في الحياة العملية اي في الثورة الاتصالية التي احدثتها الصحافة التي صنعت مناخا ثقافيا جديدا مما اثر في الادب اذ اختفت انواع ادبية وظهرت انواع اخرى بديلة وتخلص الادب من الخطابة والمنبرية والتزويق والتزوين واتجه نحو الاقتصاد اللغوي وابتدأ مصطلح الانتقاد يطفو على السطح وتبنته مجلة العلم ومجلة لغة العرب وكانت الحداثة النقدية في كلتا المجلتين تعني مواكبة الزمن بمتابعة ما هو عصري. اشتباك الفضاءات الاتصالية عبر حكايات عن فتاوى وقصص سياسية واحتلال انجليزي اعقب الاحتلال العثماني واغلق باب العمل في الصحافة على الانصار الموالين عاد الافندية ثانية الى المقهى كبديل للخيانة كان المقهى منفى طوعيا شبيها بالمنافي البعيدة التي ضمت المثقف العراقي في العهد البعثي. في هذا الوقت برزت المقاهي الاختصاصية وتحولت الى اماكن للصحافة الشفاهية نما فيها النقد للترويح عن النفس او التطهير بالمعنى الارسطي وفي العام 1936م تأسست دار الاذاعة العراقية وكانت من حصة السلطة العسكرية ولم يكن للمثقف دوره ايضا وحين حاولت الدولة ان تتسع الاذاعة لصوت المثقف لم تجد الا الثقافة الشفاهية التي مثلتها محاضرات د. محمد مهدي البصير عن ادب شفاهي بوسط شفاهي. الرصافي.. راهب النقد الملتزم يقف الغانمي عند معروف الرصافي 1875 - 1945 تصوره مثالية للافندي العراقي وعاش ضروب الاتصالات المتشابكة فاهتم بالخطابة والف فيها كتابا كما اصدر مجلة الامل 1923م وترجم كتاب رواية الرؤيا واصبح هذا الكتاب الى جانب كتاب الجاذبية وتعليلها للزهاوي والقرآن والكون للشهرستاني الصادرين في بغداد عام 1910 اقدم ثلاثة كتب حديثة في العراق. بعد نشر رواية الرؤيا تولد صنف ادبي جديد اطلق عليه قصة الرؤيا فقدم عطا صبري (كيف يرتقي العراق.. رؤيا صادقة) ويلجأ الرصافي الى تأريخية الشعر ويكتب ما سمى بروايات الطبيعة فمصطلح رواية كان يعني لديه سلسلة من الاحداث التي تؤدي الى نهاية بالمعنى الفائي للكلمة وكان الرصافي يصبو عبر مشروعه النهضة الفكرية للعرب عبر تأسيس فكر واع لصنع الحاضر ببناء اجتماعي تتضافر فيه المصلحة والقناعة وهو بهذا المشروع يهتم بالثقافة التراثية والنقدية ويهتم ايضا بنقد الثقافة الاستشراقية وان بقي يفكر في اشكالية الهوية التي كان يطلق عليها الشخصية. لقد ظل الرصافي وفيا لمشروعه ودفع ثمنا غاليا لهذا الوفاء في حياته وبعد موته. الزهاوي ونيتشه يحاول الغانمي تحت هذا العنوان الزهاوي ونيتشه ان يربط بين الزهاوي والفكر النيتشوي ويتجه في ذلك الى النقد الداخلي اكثر من التاريخي ويكشف عن فكر الزهاوي الذي اتجه لمناقشة قضايا علمية خاصة نظريته في الدفع العام كل شيء يحن الى الاندفاع والانطلاق ليس الانسان وحسب بل الذرات والكواكب والشموس وغيرها. وكانت لديه ثقة كبيرة في التطور ووضع ذلك في قصائد له واقترح الزهاوي في محاولة لايجاد معيار موضوعي لنقده الادبي ان يكون الشعور معيار التجدد والسمع معيار التقليد. من الشفاهية الى النقد التاريخي الى محمد مهدي البصير يتجه سعيد الغانمي في متواليته السردية عن النقد الادبي في العراق والبصير بدأ حياته شاعرا في مدرسة محمد القزويني وكان خطيب الثورة ضد الانجليز وذهب الى فرنسا لاكمال دراسته وبعد عودته اصدر عددا من الكتب النقدية كان من اهمها كتاباه بعث الشعر الجاهلي 1939 ونهضة العراق الادبية في القرن التاسع عشر 1946م يرد الاول على طه حسين ويبعث الثاني تراث القرن التاسع عشر الشعري في العراق. ويرى د. البصير ان هناك مبادئ خمسة لابد من توافرها في النص وهي قدرة الشاعر على الابتكار ووحدة موضوع القصيدة والتناسب بين الوزن الشعري والفكرة وجودة تنظيم الافكار وحرية توزيع القوافي. تحولات الادب الملتزم في مدخله للحديث عن الادب الملتزم يستعرض الغانمي الاشتباك النقدي الذي حدث في بداية الخمسينيات بين دعاة الالتزام ودعاة الانفصام في مصر ولبنان ويتناول اعداد مجلة الاداب التي تناولت هذا الاشتباك في عددها الاول وما بعده متناولة مفهوم الالتزام. عراقيا كانت الاداب منذ اعدادها الاولى قد لقيت الاهتمام والمتابعة وساهمت فيها الاقلام العراقية ومنها اقلام حسين مروان الذي تبنى فكرة الالتزام ومعه السيار الذي دعا الى الالتزام ايضا. تكرار التكرار في عام 1949م وفي مقدمة ديوان شظايا ورماد كان رأى نازك الملائكة يدور حول (اللاقاعده هي القاعدة الذهبية في الشعر) وفي عام 1963م تحول من النقيض الى النقيض. يضيء سعيد الغانمي لتحولات فكر نازك النقدي ويلقي الضوء على تعريفاتها حول القصيدة ورأيها في الشعر الحر التي اعتبرته ظاهرة عروضية قبل كل شيء وتبنيها فكرة النموذج وتعريفها تعريفا انتقائيا يجمع بين مختلف انواع النماذج. الصحوة الحوارية تصل بنا السردية النقدية الى اواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات تلك الفترة التي شهدت حوارية باختين وانتعشت فيها افكاره الادبية ليبني بعض النقاد العراقيين هذه الافكار لتصدر ثلاثة كتب عن باختين وله ومعه الاول للدكتور جميل نصيف التكريتي مترجم والثاني لفخري صالح مترجم والثالث للناقد فاضل ثامر تأليف. ومن اهم مزايا النقد الحواري انه يسمح بان تتكامل فيه المناهج النقدية الحديثة جميعا من تفاعل وتداخل. ويتوقف الغانمي عند الفكر الباختين طويلا هذا الفكر الذي شارك في توضيحه فاضل ثامر الذي تختزل سيرته سيرة النقد العراقي المعاصر اذ يعد من طليعة النقاد الستينيين ويضيء الغانمي لبعض اعمال ثامر ومشروعه النقدي. الاتجاهات الحديثة في الفصل الاخير من كتاب مائة عام من الفكر النقدي يكشف لنا عن السياب الناقد ويرى انه مرحلة المرآة للنقد العربي والعراقي خاصة. ويتحدث عن المناخ السياسي والثقافي الذي ساد العراق في الستينيات وما بعدها يرصد لبعض الاعمال النقدية ذات الاتجاه الشكلاني والاسطوري او التاريخي التوثيقي مثل اعمال د. عبدالواحد لؤلؤة وعبدالاله احمد ومحسن اطميش ثم اعمال جبرا ابراهيم جبرا التي استمت بالضبط المنهجي وانتعاش حركة الترجمة. وفي الثمانينيات انتعش حديث النقد وقد اعتبر النقاد ان النقد العراقي لم يبدأ الا في عقد الثمانينيات اذ ظهرت اعمال نقدية عديدة. ويختم الغانمي كتابه بالاشارة الى ان هذا التصنيف غير حصري واغفل العديد من الاسماء ولكنه تصنيف شامل للاتجاهات.