ولي العهد لترمب: توسيع استثمارات السعودية مع الولايات المتحدة ب 600 مليار دولار    «ميناء القصيم الجاف» نقلة لوجستية إستراتيجية    مجلس أكاديمية الإعلام يناقش الأهداف الإستراتيجية    مهرجان الخرج للتمور    إغراق سفينة حملت رؤساء أمريكا عمداً.. لهذا السبب!    حرائق أمريكا.. هل من مُدَّكِر؟!    السعودية تستعرض ثمار رؤيتها 2030    وزير الخارجية يبحث المستجدات الإقليمية والدولية    الفيصلي يستقبل الجبلين.. وجدة ضيفًا على الجندل    تنبيه من الدفاع المدني: أمطار رعدية حتى الاثنين المقبل    الزميل رابع سليمان يجري عملية جراحية    "بن مريخان" يحتفي بزواج حبيب    أمير الشرقية يستقبل الفائزين من "ثقافة وفنون" الدمام    مدير الأمن العام يستقبل نظيره الجزائري    1000 معتمر وزائر من 66 دولة هذا العام.. ضيوف» برنامج خادم الحرمين» يتوافدون إلى المدينة المنورة    رئاسة الحرمين تفعّل مبادرة «توعية قاصدينا شرف لمنسوبينا»    الشيخ إبراهيم بن موسى الزويد في ذمة الله    النفط يواصل خسائره مع إعلان حالة الطوارئ الوطنية للطاقة الأميريكية    أمانة الشرقية تنجز مشروعات تطوير الطرق    البازعي ل«عكاظ»: الجيل الحالي نشأ في فضاء أكثر انفتاحاً ووعياً بأهمية الحوار    السعودية تدين وتستنكر الهجوم الذي شنته قوات الاحتلال الإسرائيلية على مدينة جنين في الضفة الغربية المحتلة    حائل تطلق برنامج «المراقبين المدربين»    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالسويدي ينهي معاناة مراجع مع مضاعفات عملية تحويل المسار بجراحة تصحيحية نادرة ومعقدة    3587 عملية قلب مفتوح وقسطرة في صحي جازان    مستشفى الرين يحقق قفزة نوعية في «2024»    سليمان المنديل.. أخ عزيز فقدناه    مسؤولون: الجيش الأميركي يستعد لإرسال 1500 جندي إضافي إلى الحدود    هندسة الحروب بين الشعوب!    في نجاح الأعمال ليس للصمت مكان    ماذا بعد ال"تيك-توك" ؟    وزير العدل يلتقي السفير الصيني    مختل «يذبح» جاره في مصر.. مصدر أمني ل«عكاظ»: القاتل يهذي بكلمات غير مفهومة    بين الإعلام والتقنية.. حروب بلا أسلحة    وصية المؤسس لولي عهده    القيادة تعزي الرئيس التركي في ضحايا حريق منتجع بولو    شهقة ممصولة    الحزم والباطن والجبيل يتغلبون على أحد والعين والصفا    تسويق الأندية الرياضية الأربعة الكبار    ندوة الإرجاف    المجتمع السعودي والقيم الإنسانية    ثقافة الابتسامة    سعود بن نايف يكرم الداعمين لسباق الشرقية الدولي للجري    قرعة كأس آسيا تحت 17 عاماً تسحب اليوم    "المطيري": استراتيجية جديدة ونقلة نوعية قادمة للعبة التايكوندو    نموذج الرعاية الصحية.. الأثر والرعاية الشاملة !    مستشفى الملك فهد الجامعي يجدد اعتماد «CBAHI» للمرة الرابعة    الفن التشكيلي السعودي في كتاب    "لسان الطير"    خدمة 4385 عميلا افتراضيا بالموارد البشرية    اختتام المخيم الكشفي التخصصي على مستوى المملكة بتعليم جازان    فرنسا تبدي قلقا كبيرا إزاء «تصاعد» التوترات الأمنية في الضفة الغربية    "ملتقى القصة" يقدم تجربة إبداعية ويحتضن الكُتّاب    وكيل محافظ الطائف يشهد حفل تكريم 850 طالباً وطالبة بالتعليم    رابطة العالم الإسلامي تعزي تركيا في ضحايا الحريق بمنتجع بولاية بولو    حسام بن سعود: التطوير لمنظومة العمل يحقق التطلعات    بدء أعمال المرحلة الثانية من مشروع تطوير الواجهة البحرية لبحيرة الأربعين    الأمير محمد بن ناصر يدشن المجمع الأكاديمي الشرقي بجامعة جازان    وفد "الشورى" يستعرض دور المجلس في التنمية الوطنية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هوامش الأفكار قد تكون أكثر أهمية من متونها الأصلية
نشر في عكاظ يوم 06 - 02 - 2014

الدكتور عبد الله إبراهيم قامة فكرية وثقافية وأدبية عربية قدم للمكتبة العربية أعمالا أثرت مجال السرديات وتركت آثارها على المشهد الأدبي والنقدي العربي وكان فوزه بجائزة الملك فيصل العالمية في مجال اللغة العربية وآدابها لعام 2014م رمزا لتقدير جهوده في خدمة لغة الضاد من القائمين على هذه الجائزة المرموقة. في هذا الحوار إطلالة على خلفية منحه الجائزة والاقتراب من مشروعه الثقافي وواقع الرواية والنقد العربي وغيرها من القضايا، حيث كان الدكتور عبدالله إبراهيم شفافا في إجاباته وعميقا في تشخيصه ورؤيته لمعالجة واقعنا العربي فكريا وثقافيا فإلى نص الحوار:
بعد كل هذه الإنجازات من الأبحاث والدراسات السردية والثقافية التي حققتها في مسيرتك الحافلة بالعطاء.. هل تعتقد أن مشروعك الثقافي الذي عملت عليه طويلا قد اكتمل؟
- يصعب التحقق من الاكتمال النهائي لأي مشروع ثقافي، إذا جاريتك تجوزا بوجود مشروع محدد الفرضيات والركائز. من الصحيح أن الباحث يضع نصب اهتمامه جملة من القضايا الفكرية المتلازمة، ويشرع في تحليلها، ولكن لا تلبث أن تتوسع وتتمدد، فيصبح من اللازم عليه استكمال ما يعتقده من نقص فيها، هنا وهناك، فهوامش الأفكار قد تكون أكثر أهمية من متونها الأصلية، وينبغي أن يمضي الباحث في تعميق مساره الفكري والمنهجي، وبخاصة في الصياغات الجديدة لأفكاره. ويمكن إجمالا القول إن اعتكافي لربع قرن على التأليف في مجال الدراسات السردية والثقافية قد رسم الإطار العام للإشكاليات التي عملت عليها، ولم يبق من ذلك سوى إشباع التفاصيل الصغيرة، التي بدونها لا يمكن أن يستقيم أمر البحث، على أنه ينبغي الانتباه إلى أنه لا توجد مشاريع ثقافية جدية منجزة لأن الظواهر الثقافية في تطور، ولها صيرورة خاصة، وكلما توهم الباحث أنه أغلق باب البحث على قضية ما استجد ما يستدعي فتح الباب مجددا لغيرها، فمن الضروري العمل ضمن أطر مرنة للبحث في المجال النظري والتطبيقي كي لا يحبس الباحث نفسه في جملة من المقولات الجاهزة.
التكديس الإنشائي
فزتم بجائزة الملك فيصل العالمية في حقل «اللغة العربية والأدب» لعام 2014 تقديرا لبحوثكم المعمقة في تحليل الرواية العربية.. كيف تقرأ واقع الرواية العربية؟
- لطالما كررت القول، في أكثر من مناسبة، بأن الرواية، هي الظاهرة الأدبية الأكثر أهمية في الثقافة العربية الحديثة، ويصح القول بأنها كذلك في العالم، فقد خاضت مغامرة جريئة في تمثيل الأحوال الاجتماعية والسياسية والدينية في المجتمع العربي منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى الآن. ومنذ ذلك الوقت تطورت بنياتها السردية والأسلوبية، واقترحت لغة جديدة غير تلك اللغة المعيارية التي أصبحت موضوعا للبلاغة التقليدية في القرون الوسطى، وإلى ذلك فقد جاءت بجملة من التقنيات الجديدة في تركيب الأحداث والشخصيات، مما جعلها تتبوأ مكان الصدارة في الأدب العربي الحديث. وعلى الرغم من كل ذلك فثمة أمراض متوطنة لازمت الرواية العربية، تحتاج إلى علاج جذري، منها: التكديس الإنشائي المفرط في ثنايا السرد بما أعتبره ورما خبيثا ينبغي استئصاله، وإبعاده عن متن الرواية لأنه يحول دون سلاسة الأحداث، ورشاقة الشخصيات، بل يعيق حركتها، ويطمرها تحت وابل من الهوس اللفظي الذي لا ينفع إنما يضر بكل عناصر البناء الفني للرواية، ومنها العاطفية الساذجة التي تكتنف مشاعر الشخصيات، وهو يذكر بالحقبة الرعوية في تاريخ السرد، وذلك ما ينبغي تخطيه، فالأحاسيس الجوانية يجب ألا تكون مجانية ترمى في سياق السرد بدون تدبر وهدف، إنما من المهم أن تنبثق بغزارة من المواقف الناظمة للشخصيات، ومن العيوب التي تحتاج الرواية العربية الانتباه إليها، والتخلص منها: الركاكة الأسلوبية، ومحدودية المعجم اللغوي، وضحالة الخيال، وضعف الحبكات، وشبه الجهل بكيفية بناء الشخصيات، وعدم مراعاة الشروط العامة في بناء الشخصيات، كالملامح الخارجية، والأفعال، والأفكار، ورؤية العالم، وسوى ذلك من العيوب التقنية والأسلوبية والتركيبية التي لا تتوافق مع معايير الصناعة السردية الحديثة.
واستمرارا لذلك كيف تقرأ واقع الحركة النقدية حول الرواية العربية؟
- فيما يخص النقد المعني بالظاهرة السردية، فقد حقق إنجازات ممتازة كما حققت الرواية ذلك، فانصرف إلى وصف الأبنية السردية والدلالية، وكشف كيفيات التمثيل السردي، وبذلك انتقل بحال النقد من كونه تعليقات وانطباعات إلى حال ظهر فيها باعتباره ممارسة تحليلية واستنطاقية تحايث النصوص، وتقوم بتأويلها، استنادا إلى رؤية نقدية واضحة، ومنهج فيه من الكفاءة بمقدار ما فيه من المرونة، وكل هذا لم يكن متحققا قبل عقود قصيرة، ومع كل ذلك، فالنقد السردي يشوبه قصور واضح، كما رأينا ذلك في حال الرواية، ومن ذلك: خضوع الكثير منه لمنهجيات مستعارة من سياقات ثقافية أخرى، وامتثاله لجملة من المقولات السردية التي أنتجتها الدراسات الغربية، التي نظر إليها بعين التقديس، وليس ببصيرة المثاقفة، وبذلك شاعت التصنيفات الضيقة التي أطفأت الوهج السردي في العالم الافتراضي للنصوص الروائية، ويحتاج النقد إلى مراجعة لتعديل كثير من الأخطاء، وكل ذلك لن يتحقق إلا استنادا لرؤية نقدية للأدب ووظيفته، والأخذ بمنهج معبر عن تلك الرؤية، والحال هذه، فلسنا، في تقديري، بحاجة إلى نظرية جاهزة في تحليل الآثار السردية في عالم متداخل الثقافات أجهز على المرويات المغلقة للتاريخ والعقائد والأيدلوجيات، إنما بحاجة إلى تعميق الحس الثقافي والجمالي للناقد في مقاربته للأدب. إن المدرسية الضيقة للممارسة النقدية، والتنقيب في ثنايا النصوص على الإشارات التي توافق المقولات الجاهزة، والوصف العقيم للآثار الأدبية بدل استنطاقها وتأويلها، وربطها بمرجعياتها الكبرى، هي ظواهر مزعجة في النقد العربي، وبخاصة الأكاديمي منه، وقد آن الأوان لتجاوز كل ذلك.
ما هي المنطلقات التي بنيت عليها مشروعك في تفكيك المركزيات الثقافية كما ظهر بمجموعة الكتب التي حللت فيها المركزية الغربية، والمركزية الإسلامية؟ وهل تعتقد أن الحوار مع الآخر وحده لا يكفي؟
- صرفت جهدا كبيرا، ووقتا طويلا، في رصد ظاهرة المركزيات الثقافية وتحليلها، ويعود ذلك إلى أنني رأيت الثقافة العربية الحديثة تعيش تطابقا مع الثقافة الغربية من جانب، وثقافة الماضي من جانب آخر، فهي محكومة بعلاقة امتثال للآخر وللماضي، ولن تقوم لها قائمة إن لم تختلف عن هاتين الدائرتين الجاذبتين لمعظم ما فيها من إنتاج فكري وأدبي وسياسي، وأن تتفاعل معهما تفاعلا إيجابيا وليس سلبيا، وذلك ما اصطلحت عليه ب«الاختلاف» الذي هو ضد «المطابقة» في سلسلة من الكتب ظهرت بعنوان جامع هو «المطابقة والاختلاف». وهو عمل فكري مواز للدراسات السردية، لكنه راح يتداخل معها منذ مطلع الألفية الجديدة، بناء على فرضية تقول بأن التمركز الثقافي والعرقي والديني يقوم على الإيمان بسرد مخصوص تأخذ به الأمم حول كل ما يتصل بها وبغيرها، وقد حاولت تفكيك هذه الظاهرة المتمكنة من كثير من الثقافات، وبخاصة الثقافة العربية الحديثة، وأتمنى أن يمضي باحثون آخرون في استئناف النظر بهذه القضية الشائكة، وعلى هامش ذلك رحت أبحث في إمكانية «تعارف الثقافات» قبل تحالفها، فقد درج الحديث عن مفهوم «تحالف الحضارات» في المحافل الدولية، وهي فكرة ينبغي الثناء عليها لأنها تهدف إلى بناء علاقات ثقافية بين الأمم تحول دون الخلاف والاحتراب. لكن البحث قادني إلى الالتفات الى «المفهوم الإسلامي» لذلك، فوجدت أن «الثقافة الإسلامية» تفضل أن يكون التعارف هو الخطوة الأولى لبناء التحالف، فتعارف الثقافات هو الخطوة الأساسية في أي تحالف محتمل، إذ لا يمكن ظهور تحالف قبل أن يكون هنالك تعارف بين الأطراف المتحالفة، وفي حال من سوء التفاهم بين الثقافات في العالم المعاصر يلزم التعارف قبل التحالف. وفي معظم ما اطلعت عليه من أدبيات فكرية حول الموضوع لمست تغييبا واضحا ل«الإسهام الإسلامي» في بناء فكرة التحالف التي جاءت انطلاقا من قوله تعالى (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) فالأسبقية للتعارف وليس للتحالف. وفي ضوء ذلك أجد بأن تأصيل المفهوم يحتاج مساهمة حقيقية تمهد لمفهوم التعارف. فمن الأفضل، تبني مفهوم «تعارف الثقافات» باعتباره مقدمة لموضوع «حوار الحضارات».
كثير ممن حصلوا على جائزة الملك فيصل العالمية نالوا بعدها جائزة نوبل.. أليس هذا دليلا على أن العرب قادرون على إيجاد مشاريع ثقافية توازي ما لدى الغرب؟ وكيف تنظر إلى موضوع فوزك بالجائزة وحيثياته؟
- هذا صحيح، فجائزة الملك فيصل العالمية، وبخاصة في مجال العلوم والطب، دشنت الطريق لعدد من الحاصلين عليها للفوز بجائزة نوبل، وهذا يكشف عن حياد موضوعي في مراعاة شروط الفوز، وأتمنى أن يتحقق ذلك في حقل العلوم الإنسانية أيضا، بحيث تكون الجائزة حافزا للباحثين في هذا المجال. ومن الواضح أن ما نفتقر إليه هو عدم توفر السياقات الصحيحة للبحث العلمي والفكري، فالباحثون يتعثرون بصعاب كثيرة تحول دون انصرافهم إلى تحقيق أهدافهم الكبرى، وفي الغالب يجدون أنفسهم خارج أوطانهم، فيصبح الاعتراف صعبا، وإن تحقق ذلك فسيكون، في الغالب، مثار ريبة. وبقدر تعلق الأمر بي، فإنني أعد حصولي على جائزة الملك فيصل العالمية اعترافا مؤكدا بحهد نقدي في مجال الدراسات السردية استغرق طويلا، والفوز بها هو اعتراف من طرف جائزة مرموقة بجهود الباحثين في قارة السرد العربي التي ما زالت شبه مجهولة على الرغم من كثرة البحوث فيها. وقد ورد في حيثيات الفوز بأنها منحت للفائز بها «تقديرا لأعماله العلمية وإسهاماته في دراسة الرواية العربية الحديثة في عدد من مؤلفاته، وكان ذا اطلاع واسع على المدونة السردية العربية مكنه من ضبط هذا التخصص المتعدد الموضوعات والإشكالات. وكانت تحليلاته موفقة إلى حد بعيد، وقائمة على قدر من المحاجة والإقناع، وقد أخضع ذلك كله للعناصر الأصيلة والوافدة من الآداب والثقافات، رابطا الخطاب السردي بغيره من الخطابات الأخرى». وهذه الحيثيات الخاصة بالفوز تفي بكل ما يمكن قوله عن هذه الجائزة وأسباب منحها.
هوية ثقافية مفتوحة
قلت في وقت سابق إن جماعة كركوك أسهمت في تغيير نظرتك إلى نفسك وللعالم، وأثرت كذلك في صياغة ذائقتك الأدبية. هلا حدثتنا عن هذه الجماعة، ولماذا استطاعت تغيير مسار حياتك؟
- باعتباري عراقيا من كركوك وجهت إلي كثير من الأسئلة حول «جماعة كركوك»، فقد عشت مفعما بالمعايير الأدبية التي رسختها تلك الجماعة في المدينة، وربما في الوسط الثقافي العراقي بشكل عام، وحيثما يجري الحديث عن جماعتي كركوك الأولى والثانية فينبغي الامتثال للأعراف الثقافية في تكون الجماعات الأدبية الحقيقية، وهي الاشتراك في رؤية شبه موحدة للعالم، والاتفاق العام على دلالة الأدب ووظيفته، ثم الهدف الذي تريد الجماعة تحقيقه، وطبيعة العلاقات التي تربط أعضاءها، ومجمل السلوك الثقافي والشخصي الذي يلتزمونه في علاقاتهم، ثم موقفهم من الأدب السائد، ورغبتهم في تغييره، واقتراح أنماط تعبيرية بديلة، وحينما تمزج كل هذه المعايير معا، وتصهر فإنها تدمغ الجماعة الأدبية بمسمى خاص بها، وهذا هو المحدد العام لظهور جماعة كركوك، ولكن ينبغي الالتفات إلى أمر مهم، فحال كركوك وسم الجماعات الأدبية فيها بهويتها الثقافية المفتوحة عرقيا ودينيا وثقافيا، وهو ما يندر توافره في المدن العراقية الأخرى حيث يسود شبه صفاء عرقي أو ديني أو لغوي، وحينما نتحدث عن تلك التنوعات في كركوك فإنما لأنها أثرت الجماعة وأغنتها، فالتقى أفرادها في منطقة المشتركات الكبرى حيث نزعت عنهم هوياتهم الضيقة، ومنحتهم هويتها المفتوحة، فجعلتهم ينتمون إلى هوية ثقافية مركبة تتداخل فيها أطياف المدينة بأجمعها، وذلك هو الذي جعل الأدب الذي كتبه أدباء كركوك يتنزه عن التعصب والتطرف والعنصرية، فلا وجود لنبرات التعالي أو الشعور بالدونية في وسط جماعة تتحدر من خلفيات متنوعة، وإلى تلك السمة المشتركة الجامعة أعزو أهمية الجماعات الأدبية في كركوك. غذى الجو الاجتماعي المتنوع هذه الجماعات الأدبية بآمال عراض لكتابة مغايرة، وممارسة حياة جديدة، وكانت كركوك مفعمة بالروح المدنية إلى حوالي نهاية سبعينيات القرن العشرين، ولم تحم في أفقها التحيزات الأيدلوجية المتعصبة أو تخدش تنوعها، وما دام التوازن الثقافي متحققا فيها بنحو طبيعي وليس بالعنف، فقد دفعت بأجيال من المثقفين الحيويين العابرين لأعراقهم وأديانهم إلى معمعة العمل الثقافي، وجلهم تلقّى تعليما جامعيا أو عاليا مكنهم من الاطلاع على الثقافة العالمية وتياراتها الفاعلة. ولعل تلاشي الشعور بوجود جماعة ثقافية غالبة ترك أثره في رسم الحدود العامة لنشاط تلك الجماعات. ولم يشذ أحد من جماعة كركوك عن هذه الأعراف الضمنية السائدة في المدينة. وقد تخطى التأثير الأدبي لبعض أدباء جماعة كركوك الأولى والثانية المحيط الثقافي للمدينة إلى بغداد وسائر مدن العراق، بل وامتد ذلك التأثير إلى الثقافة العربية، فشكلوا اتجاهات متميزة في السرد والشعر والنقد، وترجمت كثير من أعمالهم إلى اللغات العالمية الحية، وبالإجمال فقد أسهموا في التجديد الأدبي حيثما كانوا.
باعتبارك القائل إن الكاتب حين يجف نبعه، ويشعر بعدم قدرته على أن يأتي بجديد، ينبغي له المحافظة على الوضع الذي أصبح فيه بدل فقدانه. لماذا برأيك يصر بعض النقاد على عدم الأخذ بنصيحتك؟
- أطلقت ذلك التحذير لنفسي وجيلي من النقاد (ويشمل ذلك الروائيين والشعراء) عساهم يحذرون من التكرار، فالتصور الضيق لوظيفة الممارسة النقدية ينتهي بالناقد إلى النهج التعليمي بما يجعل تلك الممارسة خاضعة لقيود مدرسية تنتهي بالتكرار، فيما ينبغي على النقد أن يكون متوثبا في غايته، وجامحا في طموحه، على مستوى الوصف والتحليل والتأويل، ويتجنب، ما استطاع، الامتثال للتكرارية، التي هي آفة كل فكر. ولم أفترض أن يقع الأخذ بذلك التحذير كما هو، إنما قد يسهم فقط في التذكير بالأدوار الحية للمفكرين في مجتمعاتهم، أولئك العظام الذين دشنوا للتحولات الحية في التاريخ الإنساني، مثل ابن رشد، وروسو، وفولتير، ولوك، وطه حسين، ومونتسكيو، وماركس، وأركون، وطبقة كاملة من نخبة المفكرين والنقاد الذين هيأوا الأرضية المناسبة لقبول الأفكار الجديدة التي تحتاج إليها مجتمعاتهم. ويتصل ذلك التحذير بوضع له صلة بالتعليم، إذ إن عددا كبيرا من النقاد العرب يمارسون العمل الأكاديمي، في الغالب، ومهنة الاستاذ الجامعي تقوم في أساسها على التصنيف، والتحقيق، والتكرار، وتثبيت المعلومات، والأخذ الصارم بالشروط المدرسية في التعليم، مما يدفع بصاحبها، بمرور الزمن، الى التكرار نفسه فيما يكتب، ويلقي من محاضرات، وأحيانا يحول دون ظهور الأفكار الجديدة في الأجيال اللاحقة، وتلك ظاهرة بارزة في الثقافة العربية الحديثة. وبخاصة في مجال النقد.
يتساءل بعض القراء والنقاد: لماذا يغلب على دراساتك النقدية الجانب التنظيري، محتجين بعدم تقديمك لأية شخصية روائية عراقية أو عربية كبيرة كما فعل القط مع الفيتوري مثلا؟ هل من تعليق؟
- هذه تهمة لازمتني كثيرا، وهي لا تزعجني، ولكنها تكشف عن غياب الدراية الكاملة بعملي النقدي، فمن بين نحو عشرين كتابا عن السرد العربي، بما في ذلك موسوعة السرد العربي، لم أخصص للتنظير السردي إلا نحو خمس وعشرين صفحة، حددت فيها المفاهيم الأساسية في الدراسات السردية، واقترحت المنهج المناسب للإفادة منه في تحليل الظاهرة السردية، وبالمقابل أجريت تحليلا مفصلا بآلاف الصفحات للمرويات الجاهلية، والحكايات الخرافية، والمقامات، والسير الشعبية، ولأكثر من مئتي رواية عربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، مهتما بموضوعات السرد النسوي، والتخيل التاريخي، والهويات السردية، والأقليات، والارتحال، والسرد الاستعماري، وفي كل ذلك انصرف اهتمامي إلى كشف المستويين السردي والدلالي للنصوص، وهو عمل يندرج بكامله في مجال التطبيق المدعوم بخلفية منهجية تتصل بالدراسات الثقافية، وبما أنني -وهذا تعليق على التهمة الثانية- تخصصت بدراسة الظاهرة السردية منذ العصر الجاهلي إلى وقتنا الحالي- في بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين- فقد تخطيت الحدود الجغرافية القطرية والإقليمية للهويات الرسمية للأدب (الحدود السياسية)، وانفتحت على النصوص العربية أينما كانت، فلم أعن بأدب دولة ما على حساب أدب دولة أخرى إلا ما جاء دون قصد؛ لأن الظاهرة السردية معبرة عن الخيال الاجتماعي العام، وتقوم بتمثيل سردي للأحوال الفردية والعامة، والراجح أن حصة العراق من ذلك (بالمفهوم الوطني للأدب) لا تقل عن نظيراتها في البلاد الأخرى، فالمهم بالنسبة لي إدراج السرد القومي في إطار ناظم معبر عن وظيفته، وليس استرضاء أحد.
د. عبدالله إبراهيم
ناقد وأستاذ جامعي من العراق، متخصص في الدراسات السردية والثقافية. نال درجة الدكتوراه في الآداب العربية عام 1991 من كلية الآداب في جامعة بغداد. عمل أستاذا للدراسات الأدبية والنقدية في الجامعات العراقية، والليبية، والقطرية منذ عام 1991 لغاية عام 2003. ثم منسقا لجائزة قطر العالمية من 2003-2010. ويعمل حاليا خبيرا ثقافيا بالديوان الأميري في الدوحة، وهو باحث مشارك في الموسوعة العالمية (Cambridge History of Arabic Literature). حاصل على جائزة الملك فيصل العالمية لعام 2014، وجائزة الشيخ زايد لعام 2013، وجائزة «شومان» للعلماء العرب لعام 1997.
من مؤلفاته المنشورة:
- السردية العربية، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1992، ط2، المؤسسة العربية، للدراسات والنشر بيروت، 2000.
- السردية العربية الحديثة، بيروت، المركز الثقافي العربي، 2003. والمؤسسة العربية للدراسات، 2013.
- المتخيل السردي، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1990.
- الرواية العربية: الأبنية السردية والدلالية، دار اليمامة، الرياض، 2007.
- موسوعة السرد العربي (مجلدان) بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2005، ط2، 2008.
- المحاورات السردية، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2012.
- التخيل التاريخي، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2011. وغير ذلك من المؤلفات التي لا يتسع المجال لذكرها في هذا الحيز.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.