يعد رائد القصة الحداثية في العالم العربي، واعترف به اخيرا كأحد مؤسسي القصة العربية القصيرة، ولانه ليس من هواة الصخب والمزايدات، ولانه لا يجيد التسرب الى عقول القائمين على وسائل الاعلام تاخر اكتشاف النقاد له، وتأجلت اعماله لدى دور النشر المصرية اكثر من عشر سنوات باستثناء (العشاق الخمسة) انه القاص الكبير يوسف الشاروني احد آباء الترعة التجريبية في الادب العربي المعاصر، وان اخذته القصة تحديدا، فله تجربة غير مسبوقة في الشعر المنثور (المساء الاخير) كما انه احد قلائل النقاد الاصلاء في الابداع، فالقص لديه سباق على النقد، ولم يستغل كآخرين النقد معبرا الى أدب مصنوع صاغته خبرة الاحتراف. @ ما المؤثرات والمناخ الذي قادك إلى تجربة الكتابة وبمن تأثرت؟ * سطوع اسماء الادباء واستحواذهم على مكانة لاتقل عن مكانة كبار السياسيين في الماضي وقت طفولتي لفت انتباهي بشدة، فانكببت في نهم على كل ما تقع عليه يدي من كتب اثناء دراستي في الجامعة الامريكية زبونا دائما على القسم العربي بمكتبة الجامعة... وتعرفت اثناءها الى اقتباسات المنفلوطي واعمال طه حسين والحكيم، ومعارك العقاد وسلامة موسى، وشعر جبران، ولكن كنت اكثر تأثرا بشاعر مغمور يسمى حسين كفيف لم يأخذ حظه من الشهرة وكذلك مترجم يدعى المنجوري كان ينشر في جريدة المقتطف شعر طاغور، ولعل لهؤلاء الثلاثة الاخيرين التأثير الاكبر في تجربة الشعر الوحيدة التي صغتها من النثر الغنائي (المساء الاخير) وكغيري من ابناء جيلي والجيل السابق لنا، جمعنا بين ثقافة تراثنا العربي في كتاب الاغاني ومقامات الهمزاني وكليلة ودمنة وكتاب (مجالس الأدب في حدائق العرب) للاب لويس شيخو، وبين الادب الغربي في كتابات شكسبير وهوجو وديستويفسكي.. كما تعرفت مبكرا على بعض اعمال السيريالية الاوروبية ممثلة في جون كوكتو، وجول رومان، واتصلت بالسيرياليين المصريين في مرحلة مبكرة، وتفتحت مداركي الى ما يسمى بتحطيم قواعد المنظور. @ لماذا لم تكتمل تجربتك مع الشعر، وخاصة انها تجربة مبكرة في الشعر المنثور الغنائي، والتي تمثلت في كتاب (المساء الاخير)؟ * حقيقة، انني حتى الآن لا ادري لماذا، فقد كتبته في بداية الخمسينات مع (العشاق الخمسة) التي نشرت عام 1954 ولكن تأخر نشر (المساء الاخير) حتى الستينيات عندما نشرته دار المعارف، وكان قد نشر متفرقا في عدة مجلات لبنانية حتى ظن البعض انني لبناني، ولا استطيع ان اجزم بان لمعوقات النشر دورا في عدم تكراري لهذه التجربة. @ لماذا اتجهت للقصة القصيرة دون غيرها من فنون الادب، رغم ان ابناء جيلك يوسف ادريس ومصطفى محمود وادوار الخراط ينوعون بين القصة والرواية.. ثم المسرح، فلماذا احتكرت القصة تجربتك؟ * كما قلت أنت فهي التي احتكرتني ولست انا الذي اخترتها ولعل هناك اسبابا موضوعية لها دور في ذلك فالتطورات العالمية التي حدثت عقب الحرب العالمية الثانية احدثت تأثيرا كبيرا على الادب، اهمها سرعة المواصلات، وتطور الاتصالات وظهور التليفزيون الذي اعده صانع المرحلة الثالثة للادب الذي بدأ بالادب الشفاهي، ثم المطبعي، ثم ادب التليفزيون، كما خلقت الاخبار الكثيرة التي تصل عبر المخترعات الحديثة تناقضات نفسية تحتاج الى فن خاص للتعبير عنها.. كما ادى تطور الطب الى الحد من نسبة الوفيات وبالتالي تأزم الزحام وما يتبعه من اخلاق همجية، ومفارقات وتناقضات، وقد كتبت عن هذه الظاهرة قصة (الزحام) عام 1963، وفي هذه الآونة ظهرت المدرسة السريالية عقب الحرب العالمية الثانية ولظروفي الذاتية النفسية اتجهت الى اشكال التعبير غير التقليدية بالاغارة عبر الحدود الادبية كما اسميها.. يضاف الى هذه الاسباب مؤثر اقليمي هام وهي نكبة فلسطين، والقلق والخوف اللذان زرعتهما في نفوسنا، ومن وقتها وانا احاول ان اكتب ما ادعوه ب (القصة الكونية) التي لا تكتفي بالحدود المحلية بل تنفتح على عناصر محلية متعددة، وقد بدأتها بقصتين استعرت شخوصهما من رواية نجيب محفوظ (زقاق المدق) هما (عباس الحلو) و(زيطة صانع العاهات) فتتبعت قصة الاول بعد مقتله ونهاية رواية محفوظ، موضحا ان مقتله جريمة عالمية اشترك فيها تشرشل الذي بعث بجنوده الى مصر، وهتلر الذي كان سببا في الحرب ومجيء الجنود الاجانب، وكذلك صانع زجاجة الخمر التي قتلته في بوردو بفرنسا.. اما زيطة فأدخلته مع مشاهير صناع العاهات روزفلت وموسيليني وهتلر وستالين، فالاول يصنع العاهات للافراد بارادتهم لكي يتكسبوا بها التسول، اما الآخرون فكانوا يقصدون القتل، كما قتلت العاهة قدراتهم على العمل والتكسب، بعكس زبائن زيطة.. واكتب الآن عملا قصصيا من بين الرواية والقصة القصيرة بعنوان ومضات الذاكرة فهي قصص متفرقة ليست مسلسلة لاحداث مؤثرة في حياتي. @ عن الحداثة والتأثر بالسيريالية في تجربتك، ماذا تقول؟ * عناصر التجديد في قصص كثيرة، وتأثيري بالسيريالية لم يصل الى درجة الغموض التي نراها عند الآخرين بعدنا، وأزعم انني اول من استخدموا اكثر من ضمير واكثر من زمن في النص الواحد، واكثر من مستوى شعوري يبدأ من حلم اليقظة وحتى الحلم والكابوس والهذيان، كما نجحت في توظيف اللفظ وجندته مثل (انتابته جرأة وخوف)، (لم يقع ولكنه سيقع).. كما حاولت ان اكتب في ما يسمى الاتجاه التعبيري كما اهتممت بالعابر او ما يبدو تافها مثل (تاريخ حياة مؤخرة) و(اعتراف ضيق الخلق والمثانة).. كما حطمت قواعد المنظور في قصة الزحام التي بدت فيها الاسقف منخفضة دلالة على ضغوط الحياة التي تدفع الناس الى الانحناء والتقوس. @ لماذا تأخرت شهرتك؟ ولماذا كان يوسف ادريس هو النجم الاوحد الذي سحب البساط من تحت اقدام زملائه من جيل الخمسينات كما يقال؟ * أنا ويوسف ادريس بدأنا معا فقد كتبت العشاق الخمسة في نفس التوقيت الذي كتب هو فيه (أرخص ليالي) ولكن طه حسين كتب مقدمة لمجموعته ورفض الكتابة لي، وفوجئت برفض كل المجلات الادبية في مصر كتاباتي، واضطررت للنشر في مجلة الاديب اللبنانية.. واظن ان عناصر التجديد في قصصي كانت تمثل صدمة للمناخ الادبي والقائمين عليه في مصر، في هذا الوقت المبكر في اواخر الاربعينيات ورغم انني تنبأت بثورة يوليو في قصة (الحذاء) الا ان اكتشاف اعمالي تأخر 20 عاما اي لما بعد نكسة 1967م وقد اعترف ناقد كبير هو صبري حافظ بانني الاب الحقيقي للقصة القصيرة العربية الحديثة، رغم كم القدح الذي وجهه الى اعمالي زملاؤه قبل ذلك حيث اتهموها بالغموض والسيريالية، كما عبرت بانني لا اجد من ينشر لي.. ولم تكن علاقاتي قوية بوسائل الاعلام، فلست من اصحاب الاعمدة والمقالات في الصحف، ومعظم اعمالي لم تتحول الى دراما لاسباب تتعلق بالرقابة، فقد رفض الرقيب احدى قصصي كانت دار المعارف قد اختارتها ضمن قصص اخرى من اعمالي لتقديمها في كتاب، متوهما انها كتبت عن الرئيس السادات، وكان ذلك عام 1974 رغم انها كانت ضمن اولى مجموعاتي التي صدرت عام 1954 وبالتالي لاعلاقة لها بالسادات.. كما ان تحويل الاعمال الادبية الى دراما يحتاج الى مجهود واتصالات واخلاقيات وطبائع خاصة افتقر اليها. @ ما الحدود بين الناقد والمبدع داخلك، ومن تتنبأ له بمستقبل طيب من الادباء الشبان؟ * ليس هناك حدود بين الاثنين فانا اكتب القصة عندما تأتيني فكرتها، واكتب النقد الادبي عندما تعرض علي اعمال جديرة بالكتابة او اكتب عن مؤتمر حضرته.. لكن بالتأكيد الابداع اكثر ربحا ماديا وادبيا، رغم ان الادب عموما غير مربح فالنقاد على قلتهم لايقرأ لهم احد الا صاحب العمل ودور النشر لاتتعامل الا مع عدد منهم لا يتجاوز اصابع اليد. واعتز بكتابات الاجيال الشابة، وارى انهم رغم المعوقات افضل من كتاب كبار ينحتون من بئر جافة، والجميل في الاجيال الشابة ان منهم من كتب بمصداقية عن تجارب لم يحياها، احدهم كتب قصة رائعة عن المنطقة الكردية اثناء الحرب العراقية الايرانية بصدق فني رائع ومرهف.. واذكر من هؤلاء صلاح السيد، محمد القصبي، عباس الاسواني، محمد نور الدين.