يعود الكاتب المصري سليمان فياض (1929) بالذاكرة نصف قرن متوقفاً عند مجموعته القصصية الأولى «عطشان يا صبايا» الصادرة في 1961 والتي نصحه يوسف إدريس كما يقول بأن ينتقي قصصها بعناية شديدة لأنها ستظل مرآته طوال مشواره الأدبي... «طبعت هذه المجموعة على نفقتي الخاصة ووزعتها بنفسي بعدما رفض الناقد أنور المعداوي نشرها في مجلة «المجلة»، لأنها لم تعجبه». ويرفض صاحب رواية «أصوات» الاستسلام لموجات الموضة في الكتابة... «إدخال الشعر أو وجهات النظر الفلسفية في القص أمر غير مبرر، فما زلنا عالماً بكراً والأدب بالنسبة الينا وظيفة اجتماعية». ويعتبر فياض الحديث عن المجايلة في الأدب «كلاماً فارغاً»، ويتساءل: «كيف يولد تيار في الأدب ويتكون كل عشر سنوات؟». قدم سليمان فياض عبر مشواره الأدبي تسع مجموعات قصصية وثلاث روايات، أحدثها «أيام مجاور» الصادرة في العام 2009 إضافة إلى عدد من «البورتريهات» صدرت في مجلدين تحت عنوان «النميمة»، وكتابة المعاجم وسير العلماء، وحصل على جائزة «العويس» 1994 وجائزة الدولة التقديرية 2003. من أبرز أعماله رواية «أصوات» التي صدرت طبعتها الأولى العام 1972 وأصدرتها دار «الشروق» في القاهرة أخيراً في طبعة جديدة. في روايتك «أيام مجاور» تعود إلى تفاصيل دقيقة تخص دراستك الأزهرية في مرحلة الصبا ضمن أحداث وقعت في زمن الأربعينات من القرن الماضي، كيف أسعفتك الذاكرة؟ - هذه الفترة اعتبرها من أخصب الفترات في حياتي. سبع سنوات من المعاناة النفسية والجسدية والروحية، بدأت بالتحرر من سطوة الأب والانخراط في مجتمع أزهري يعاني الازدواجية الشديدة، فأنت تعيش في زمن وتتلقى ثقافة وهوية زمن آخر. وبالنسبة الى الذاكرة، فأنا عادة لا أعتمد على الخيال في الكتابة، فالمعايشة هي الركيزة الأولى في ما أكتب. «أيام مجاور» ترصد تفاصيل الأماكن والشخوص لكن من خلال وقائع حدثت بالفعل. لست من الكتاب الذين يؤلفون. أنا أقرأ عالمي وأحاول ان افهمه وأحاول ان اصنع من قصصه التي قد يراها البعض قصصاً عادية موضوعاً روائياً. بعض النقاد أخذ على «أيام مجاور» كثرة «الزوائد الفنية» التي كان من الممكن حذفها من دون أن يتأثر العمل؟ - كتبت «أيام مجاور»، وأنا عمري 81 عاماً، في شهرين إضافة إلى الفترة الزمنية التي استغرقتها في المراجعات وتدقيق التفاصيل وكانت حوالى أربعة أشهر. أعظم كاتب عرفه العالم على الإطلاق هو ديستوفسكي الذي كانت قصصه حافلة بالزوائد. تلك الزوائد، أجمع النقاد على أنها تجسد عظمة ديستوفسكي في الكتابة. ثم إن «أيام مجاور» هي سيرة حياة وإذا حذفت منها الزوائد فقدت حيويتها وصدقها. أنا قاص حتى وأنا اكتب سيرتي، فلم أقدم تاريخاً بيبليوغرافياً مثل سيرة أحمد أمين؟ كان في استطاعتي حذف هذه الزوائد، لكنها كانت ستصبح مثل «الأيام» لطه حسين: رواية محكمة البناء لكنها لا تدلني إلى طبيعة العصر ولا المجتمع. ف «الأيام» ركزت على شخص طه حسين فقط، وعلى وجهة نظره في ما حوله، وهي غالباً كانت وجهة نظر فكرية لكن لا وجود في الرواية للمكان أو الزمان أو الناس. دعنا إذاً نسترجع بداياتك مع الكتابة والأجواء التي صدرت فيها مجموعتك «عطشان يا صبايا»؟ - «عطشان يا صبايا» نشرت للمرة الأولى في مجلة «البوليس» التي كنت أعمل فيها آنذاك وكان عنوانها «كنز قرية مجهولة»، وضمت المجموعة ثماني قصص اخترتها من بين 14 قصة، وقد نبهني الى عملية الاختيار هذه يوسف إدريس قائلاً: «انتقِ افضل ما كتبت، فهذه مجموعتك القصصية الأولى وستظل مرآتك طوال عمرك الأدبي». أعطيتها للناقد أنور المعداوي، الناقد الأدبي لمجلة «المجلة» آنذاك. سافرت إلى السعودية للعمل هناك بعد إغلاق مجلة «البوليس»، وبعد عام عدت إلى القاهرة وذهبت إلى المعداوي وسألته عن المجموعة ولماذا لم ينشرها، فكان رده: «لم أنشرها لأنها لم تعجبني». في اليوم التالي ذهبت إلى إحدى المطابع وطبعت 1000 نسخة كلفتني 80 جنيهاً، لكن صحف «الأهرام» و «الأخبار» و «الجمهورية» رفضت توزيعها بحجة أن الكتاب يجب أن يكون في 2000 نسخة على الأقل حتى توزعه. قررت أن أوزعها بنفسي. بدأت بمقهى «أوبرا»، حيث كان يجلس نجيب محفوظ وعلي أحمد باكثير وسعد مكاوي وعبدالرحمن الشرقاوي وعلي الكامل. وزعت 400 نسخة على المقاهي. ووزعت بقية النسخ من طريق «الجمعية الأدبية المصرية». في تلك الفترة كانت هناك ثلاث مجموعات قصصية اثارت ضجة في مصر وهي: «أرخص ليالي» ليوسف إدريس، «حيطان عالية» لإدوار الخراط، و «عطشان يا صبايا». كيف استقبلت صدى مجموعتك القصصية الأولى؟ - شعرت بالخوف الشديد من الكتابة، حتى أنني لم اكتب حرفاً واحداً طوال عامين. في العام 1964 كتبت مجموعتي الثانية «وبعدنا الطوفان»، وهكذا تخلصت من خوفي من الكتابة، لكنني أصبحت أكثر حذراً في اختيار التجربة التي سأكتبها. أزعم أن كل تجربة قدمتها كانت منفصلة بذاتها، سواء من جهة الرؤية أو اللغة، أو من جهة السرد. بماذا تفسر عدم اهتمام النقاد في مصر بروايتك «أصوات» عقب نشرها في مجلة «الآداب» البيروتية؟ - ربما لقلة عدد النسخ التي كانت تصل إلى القاهرة من هذه المجلة على رغم أنها كانت حتى 1973 المجلة الثقافية الأولى في العالم العربي. كان نشر الأعمال الأدبية في مصر في هذه الفترة محدوداً جداً. فمثلاً مجلة «المجلة» كانت تنشر في كل عدد ثلاث قصص فقط ولم يكن ذلك كافياً بالطبع لاستيعاب كتّاب القصة القصيرة الذين نشطوا في شكل ملحوظ منذ منتصف الخمسينات. قضية الصراع بين الشرق والغرب التي تناولتها «أصوات» عالجها من قبل توفيق الحكيم ويحيى حقي وسهيل إدريس... ما الجديد الذي قدمته أنت في هذا العمل؟ - في العام 1958، كنت أتردد على صديق يقطن في قرية في دلتا النيل، ومن هنا عايشت واقعة إخضاع السيدة الأوروبية التي كانت تزور مع زوجها القرية نفسها، لعملية ختان قسرية على أيدي نسائها. الجديد هو أنني أتيت بالغرب إلى الشرق. ولا شك عندي إلى اليوم في أن نساء تلك القرية كن يثأرن لأنفسهن من الختان الذي خضعن له في طفولتهن. وعلى رغم مرور نصف قرن على تلك الواقعة، إلا أنه لم يحن الوقت بعد لأكشف عن شخصية هذه السيدة وجنسيتها الحقيقية واسمها الحقيقى والأسماء الحقيقية لشخصيات هذه القصة التي صارت أمثولة بين قصصي. كيف ترى فكرة إدخال الشعر ووجهات النظر الفلسفية في القص؟ - قناعتي الشخصية تقوم على أن القص نشاط اجتماعي، وبالتالي لا بد له من ان يبدأ من المجتمع ويمتد اليه لأننا كتاب دول نامية، والاستسلام لموجات الموضة في الكتابة لإدخال الشعر أو وجهات النظر الفلسفية في القص أمر قد يكون مبرراً بالنسبة الى الكاتب الغربي لأنه ينتمي الى مجتمع مستقر استنفد كل تجاربه. أما العالم النامي فهو لا يزال حتى وقتنا هذا عالماً بكراً. المسألة بالنسبة الينا هي قضايا اجتماعية، فالكاتب له دور كالسياسي والمؤرخ وعالم النفس بالضبط. بل إن الكاتب يستطيع ممارسة مقدار أكبر من التأثير، مقارنة بهؤلاء جميعاً. هل نفهم من كلامك انك ترى للأدب وظيفة اجتماعية؟ - نعم. ولذلك فإنني عندما أخوض تجربة الكتابة وأشعر أن ما اكتبه لن يؤدي الوظيفة التي اتصورها أتوقف فوراً. وهنا أشير إلى مقولة همنغواي لمناسبة حصوله على جائزة نوبل: «يجب على الكاتب أن يذهب إلى حيث لم يذهب أحد بعد». في كتابك «النميمة» تناولت بالتحليل شخصيات الكثير من المثقفين المصريين عبر أسماء رمزية... متى بدأت علاقتك بهذا النوع من الكتابة؟ - أول بورتريه قدمته كان في العام 1985 بعد 50 سنة من الفرجة على مجتمع المثقفين. لكن بداية التفكير في هذا النمط من الكتابة جاءت مع القراءات الأولى عندما لفتت نظري مقالات كان ينشرها حبيب جاماتي في مجلة «الهلال» عن تاريخ ما أهمله التاريخ وكان يكشف عن أشخاص وأحداث مجهولة. وفي الأدب الغربي هناك مؤلفات مهمة في هذا النمط من الكتابة أبرزها ما كتبه مكسيم غوركي تحت عنوان «صور أدبية»، وعندما قرأت هذا الكتاب الذي يتعرض لجوانب غير معروفة في سيرة ستالين ولينين وتشيخوف وغيرهم، بدأت أفكر في الأشخاص الذين عرفتهم في حياتي وقررت الكتابة عن الأنماط النادرة التي يتحول أصحابها إلى ظواهر سواء بالسلب أو الإيجاب. فقد كنت معنياً بالكتابة عن التاريخ السري للشخصية التي أعرفها من خلال البورتريه، وبطبيعة الحال راجعت ما كتب في هذا السياق، بخاصة كتابات يحيى حقي وفكري أباظة. كيف تعاملت مع الشخصيات التي كتبت عنها؟ - قدمت بوتريهات ل 27 شخصية تعاملت معها كما تعاملت مع شخصياتي القصصية وحاولت أن أكون محايداً إلى أقصى درجة. كنت أروي مواقف حدثت من دون أن أضع انطباعاتي أو آرائي تاركاً الحكم للقارئ. استخدمت هذا الفن لنقد سلوك بعض المثقفين من مزدوجي الشخصية. وأول مثقف استفزني لرسم بورتريه أدبي له هو غالي شكري، وكان عنوانه «قوس قزح». هناك شخصيات ذكرتها بأسمائها وأخرى قمت بتجهيلها، فلماذا كان التجهيل؟ - أدب النميمة كما يطلق عليه البعض، يرصد شخصيات إيجابية وسلبية وفي طرح النوعين رصد لمتغيرات وتحولات. ومن الشخصيات التي رصدتها مثلاً على نحو إيجابي صلاح عبدالصبور الذي سميته «هرم الشموع»، وبهاء طاهر الذي سميته «مالك الحزين»، ومحمد مندور «العبقري المقهور». لماذا لم تفكر في كتابة بورتريه عن شخصية نسائية؟ - النساء في مجتمعنا العربى متحفظات في الجلوس مع الرجال، حتى المثقفات منهن عندما يجلسن مع المثقفين من الرجال يكون لديهن ذلك التحفظ الذي أرى أن له ما يبرره. كيف ترى فكرة المجايلة في الأدب؟ - تقسيم الأدباء إلى أجيال هو «كلام فارغ». لا يمكن أن يولد تيار في الأدب ويتكون كل 10 سنوات. الأدب في تصوري يجب أن ينسب إلى حقبة، والحقبة هي الفترة الزمنية ما بين حدث كبير وحدث كبير آخر، وهذا الأمر معروف في أوروبا. هل تتفق مع من يرون أن الغرب لا يترجم أدباً عربياً إلا إذا كان فضائحياً؟ - نعم، الغرب لا يهتم إلا بالكتابة التي تحمل قدراً من الفضائح. وهناك ظاهرة خطيرة في السنوات الأخيرة، تتمثل في أن الكتاب الجدد يحرصون على بلوغ ما يبتغون من الشهرة عبر العمل في الإذاعة أو التلفزيون أو الصحافة، فالكتب وحدها لا تحقق لهم هدفهم. وما خطورة ذلك؟ - انشغال الكاتب بأشياء أخرى غير الأدب يؤثر في مشروعه الإبداعي. أعمال يوسف السباعي الأولى، ومنها «السقا مات»، كانت تنبئ بأنه يسير في سكة كاتب كبير، لكن المناصب الرسمية التي تولاها بعد عام 1952 أخذته من الكتابة فقدم أعمالاً لم تكن على المستوى نفسه الذي بدأ به مشروعه الأدبي. كيف ترى واقع النشر في السنوات الأخيرة؟ - لدينا مشكلة خطيرة تواجه المبدع والناشر معاً، وهي مشكلة الأمية المنتشرة حتى بين المتعلمين. وهناك مشكلة خطيرة أخرى هي مشكلة الفقر وسوء الأوضاع الاقتصادية. القارئ أصبح يوفر ثمن الصحيفة حتى يتمكن من شراء رغيف الخبز. أحياناً يخطر ببالي أننا نحن المثقفين باتجاهاتنا السياسية والفكرية كافة عبارة عن ساقية. هذه الساقية يفترض انها ترفع الماء من بئر مياه أخذت من نهر كبير هو المجتمع. والمفروض أن هذه المياه المرفوعة من البئر تصب في حوض لتمر عبر قناة لتصل إلى الأرض، لكن المياه لا تصل لأن القناة مسدودة وبالتالي فهي ترجع إلى البئر ثانية. هذه الصورة تصف حال المثقفين في العالم العربي عموماً. الميزان مختل في الثقافة مثلما هو مختل في الاقتصاد والسياسة وغيرهما. لمن يكتب الكتاب إذاً؟ - لا يملك الكاتب إلا ان يكتب. قد يصيبه الإحباط. لكن هذا الإحباط يتراجع فوراً بمجرد ان توجد لديه تجربة جديدة يرغب في خوض غمارها أو أن يجد شيئاً جديداً يريد قوله، فأنا وقد بلغت هذه السن أجلس محاولاً قدر استطاعتى الانتهاء من كتابة ثلاث روايات اعمل عليها الآن وقد اطلقت على واحدة منها عنوان «بيت جميل ملئ بالتعاسة». حتى يستمر الكاتب في الكتابة لا بد من وجود مناخ ثقافي وحراك نقدي وتوزيع يضمن وجود عائد يعيش منه. بعض الكتاب يتجه الى الكتابة في الصحافة أو الإذاعة أو التلفزيون لتأمين مصدر مستقر للدخل، فيتحول تدريجاً إلى «كاتب تحت الطلب». الأدب عموماً لن يستعيد عافيته إلا مع انبثاق روح الانتماء والحلم القومي من جديد، حتى ولو وقعت حرب عالمية ثالثة.