الوحدة يبتعد عن مناطق الخطر بفوز ثمين على الفتح المتعثر    القبض على مصري في جدة لترويجه «الشبو»    الدفاع المدني يدعو إلى ضبط سخانات المياه بشكل آمن    تحديد مصير نيمار مع الهلال    ولي العهد يفوز بلقب "الشخصية القيادية العربية الأكثر تأثيراً" للعام الرابع على التوالي    حقيقة انتقال فينيسيوس جونيور إلى دوري روشن    الهيئة العامة لتنظيم الإعلام تطلق دليلاً شاملاً للمهن الإعلامية    مركز إكثار وصون النمر العربي في العُلا يحصل على اعتماد دولي    فرنسا تهنّئ رئيس لبنان المنتخب وتأمل تشكيل "حكومة قوية"    أسرة «المساعيد» تحتفي بزواج ابنها الشاب وليد    الرئيس الأمريكي يعلن منطقة الحرائق في كاليفورنيا منكوبة    اشتراط 30 يومًا كحد أدنى في صلاحية هوية مقيم لإصدار تأشيرة الخروج النهائي    الأرجنتيني فارغاس ينضم إلى صفوف الفتح حتى عام 2026    زيلينسكي يطالب بنشر قوات في كييف.. وأوروبا: مستعدون للدعم عسكرياً    أمانة الشرقية تكشف عن جهودها في زيادة الغطاء النباتي للعام 2024    البطي يتصدر قائمة The Elite Builders كقائد مؤثر في قطاع التطوير العقاري    وصول الطائرة الإغاثية السعودية الثامنة إلى مطار دمشق الدولي    نائب وزير الخارجية يستقبل سفير جمهورية تركيا لدى المملكة    10 فائزين بجائزة الأميرة صيتة بنت عبدالعزيز للتميز في العمل الاجتماعي    إحصائيات الخدمات الصحية لمستشفى القويعية لعام 2024م: أرقام تبرز الكفاءة والإنجاز    المرور السعودي: استخدام الجوال يتصدّر مسببات الحوادث المرورية في جازان    حساب المواطن: إيداع 3.1 مليار ريال مخصص دعم شهر يناير    فن "صناعة الأبواب والنقوش الجصية" لا زال حاضرًا في الذاكرة    «الإحصاء»: ارتفاع مؤشر الأنشطة النفطية 3.8%.. و«غير النفطية» 2.4%    النفط يهبط مع مخاوف الطلب وارتفاع الدولار والتركيز على سياسات الطاقة القادمة    استشهاد 19 فلسطينيًا في غزة    إطلاق كائنات مهددة بالانقراض في محمية الإمام تركي بن عبدالله    وفاة رجل بسرطان من تبرُّع.. هل تنتقل الأمراض النادرة عبر عمليات الزرع ؟    تدشين مشروع مراقبة وضبط مخالفات مصادر المياه واستخداماتها    نائب أمير تبوك يطلع على مؤشرات أداء الخدمات الصحية    مواجهتَا نصف نهائي كأس الملك.. الاتحاد أمام الشباب والقادسية ضد الرائد    مشعبي يطالب بإيقاف أفراح «الكأس» والتركيز على «الدوري»    أمير القصيم يتسلم التقرير الختامي لفعالية "أطايب الرس"    من أنا ؟ سؤال مجرد    الرماح والمغيرة يمثلان السعودية في رالي داكار 2025    الأردن: السجن ل 3 متهمين في قضية «حج الزيارة»    ما ينفع لا ما يُعجب    هوبال    ولي العهد عنوان المجد    أمير المدينة يرعى المسابقة القرآنية    طالبات من دول العالم يطلعن على جهود مجمع الملك فهد لطباعة المصحف    المملكة تحافظ على صدارتها بحجم الاستثمار الجريء    345.818 حالة إسعافية باشرها "هلال مكة" 2024    67 % ضعف دعم الإدارة لسلامة المرضى    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالفيحاء في جدة ينجح في استئصال جزء من القولون مصاب بورم سرطاني بفتحة واحدة    قطاع ومستشفى تنومة يُفعّل حملة "التوعية باللعب الالكتروني الصحي"    أمير المدينة يطلع على مشاريع تنموية بقيمة 100 مليون ريال    تحرير الوعي العربي أصعب من تحرير فلسطين    التأبين أمر مجهد    يهرب مخدرات بسبب مسلسل تلفزيوني    مجموعة (لمسة وفاء) تزور بدر العباسي للإطمئنان عليه    اطلع على إنجازات معهد ريادة الأعمال.. أمير المدينة ينوه بدعم القيادة للمنظومة العدلية    عناية الدولة السعودية واهتمامها بالكِتاب والسُّنَّة    دكتور فارس باعوض في القفص الذهبي    على شاطئ أبحر في جدة .. آل بن مرضاح المري وآل الزهراني يحتفلون بقعد قران عبدالله    تطوير برنامج شامل للحفاظ على المواقع والمعالم التاريخية    إنتاج السمن البري    القيادة تعزي رئيس جمهورية الصين الشعبية في ضحايا الزلزال الذي وقع جنوب غرب بلاده    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن استراتيجية التعذيب والتذويب
نشر في اليوم يوم 17 - 09 - 2002

عدت من رحلة عمل إلى أفغانستان محملاً بحصيلة وفيرة من المعلومات والانطباعات. لكني حين أمضيت يوماً كاملاً في مطالعة الصحف التي صدرت أثناء الغياب، وجدت في العناوين والتقارير الفلسطينية ما يدعو إلى القلق ويستوجب الاستنفار، على الأقل من خلال دق أجراس التحذير والانتباه. من ثم أدركت أن أي كلام خارج الموضوع الفلسطيني هو بمثابة تمرير لما يجرى وإخلال بمبدأ الأولويات. وهو ترف لا نملكه فضلاً عن انه يعد تخلياً طوعيا عن واجب الوقت. لذلك نحيت كل ما حصلته في أفغانستان جانباً، وقررت أن اصطف إلى جانب الواقفين على باب ذلك الثغر النازف والدامي.
(1)
شاءت المقادير أن تبدأ الرحلة وتنتهي بالوجع الفلسطيني. فقد لقيت في مطار القاهرة شاباً فلسطينياً يعمل مهندساً بدولة الإمارات، كان قادماً لتوه من غزة بعدما أمضى شهراً هناك عقد خلاله قرانه على إحدى قريباته. ولان شركة الطيران الأفغانية (ايريانا) فتحت خطاً جديداً بين دبي وكابول، فقد ركبنا معاً طائرة واحدة، وظل لأكثر من ثلاث ساعات يحدثني عما عايشه وشاهده في غزة. من وطأة الاحتلال إلى معاناة الناس وعذاباتهم اليومية، التي طالت أدق التفاصيل في حياتهم. وهو ما ذكرني بما قرأته ذات يوم في كتاب مريد البرغوثي (رأيت رام الله)، الذي قال فيه أن أحداً لا يستطيع ان يتصور حقاً ما يحدث على الأرض في فلسطين إلا حين يراه بعينيه، لان أي وصف مهما بلغت دقته وبلاغته يعجز عن ان يوفي الصورة حقها. خصوصاً فيما يتعلق بالتمدد الوحشي للاستيطان الإسرائيلي والانقلاب الهائل الذي تشهده الخريطة الفلسطينية، ويتم بصورة يومية من خلال إعادة رسم الطرق وإحكام المعازل، وتحويل فلسطين إلى اكبر سجن في التاريخ، في داخله يتم خنق الفلسطينيين من خلال كتم أنفاسهم وتعريضهم للقتل البطيء.
وخزني الشاب الفلسطيني بسكين حاد حين قال ان الفلسطينيين يشعرون الآن أن الجميع تخلوا عنهم، حتى اصبحوا يقفون وحدهم، ولا يرون إلا أفقاً مسدوداً ومظلماً. واكثر ما يحزنهم أن عذاباتهم تحولت إلى خبر عادي في حياة العرب، لا يحرك غيرة او شعوراً بالخطر. وإذا استثار غضب البعض وحميتهم فان ذلك الغضب سرعان ما يهدأ، وينصرف الناس عنه إلى شواغلهم الخاصة، وأحياناً إلى العبث واللهو، الذي تعبر عنه الفضائيات العربية بصورة مستفزة وصارخة.
أضاف محدثي ان الشيء الوحيد المضيء في الأفق الفلسطيني الآن هو العمليات الاستشهادية، التي اصبحت بعض الأصوات العربية تستنكرها وتتحدث عنها باستياء يثير دهشة الشارع الفلسطيني، الذي عجز عن أن يفهم لماذا يغار البعض على الدم الإسرائيلي بأكثر من غيرتهم على شلال الدم الذي يتدفق يومياً على الخارطة الفلسطينية كلها، بوتيرة متفاوتة منذ خمسين عاماً. ولماذا لا يدرك هؤلاء أن الشبان والفتيات الذين يضحون بحياتهم هم جزء من الجسم الفلسطيني الذي يتعرض للذبح يومياً، وكل ما يفعلونه انهم يمسكون بخناق القاتل ويحاولون منعه من الإجهاز على بقية الجسم؟
قال المهندس العائد من غزة انه يوم عقد قرانه اجتمعت الأسرتان في مجلس خيمت عليه الكآبة وأجواء الحزن، وتبادل الجميع كلمات مبتورة، كانت الابتسامات خلالها تنتزع وترسم على الوجوه لافتعال فرحة سقطت من قاموس الحياة الفلسطينية. ثم انصرف الجميع مع حلول الظلام، وكأنهم عائدون من سرادق للعزاء. وشاءت المقادير أن تقع عملية استشهادية في ضحى اليوم التالي، فإذا بالدم يسري في العروق والفرحة تعم الجميع، حتى ان باب الحي والعريس معهم خرجوا إلى الشوارع، وظلوا يرقصون (الدبكة) حتى الظهر. لقد ردت إليهم العملية الروح، وأحيت في نفوسهم الأمل في إمكانية نقل الوجع إلى العدو والخلاص منه، ولو بعد ألف عام.
في يوم العودة من كابول تلقيت اتصالاً هاتفياً من غزة، من مدير أحد مراكز المعلومات هناك، الذي نقل إلي نفس الصورة، وأعرب عن استغرابه لحالة اللامبالاة واللهو التي أصبحت تسود العالم العربي، ثم قال ان اجتياح غزة وإعادة احتلالها بالكامل صار وشيكاً، وهو واقع لا ريب، خصوصاً اذا تم شن الحرب الأمريكية ضد العراق. وسألني محدثي بنبرة لا تخلو من استياء ودهشة: ألا يدرك العرب أن فلسطين تصلب ويضحى بها، على مذبح الاستقلال والأمن والكرامة العربية، وان طوفاناً سيغرق الجميع اذا لقيت القضية المصير الذي يراد لها الآن؟
(2)
حين يضع المرء امامه عناوين الاخبار والتقارير التي خرجت من فلسطين خلال الأيام العشرة الأخيرة، لا بد أن تصدمه النتيجة. إذ تقع عيناه على صورة مكثفة للمشهد، لا يكاد يلحظها قارئ الصحيفة الصباحية، الذي يرى العنوان الفلسطيني ضمن عناوين أخرى كثيرة، ثم يطوي الصحيفة او يلقي بها جانباً، ويعود إلى انشغاله بأموره الأخرى.
هذه (الصدمة) تلقيتها حين اجتمعت أمامي الصحف التي صدرت خلال الرحلة، وكانت سبباً في انقطاعي عن أحداث العالم الخارجي، والعالم العربي ضمناً. ذلك أن الذاهب إلى أفغانستان ينتقل إلى كوكب اخر في حقيقة الأمر. كما ينقطع عن أحداث العالم الخارجي. والوافد اذا كان محظوظاً او من أهل الوجاهة فقد يتاح له أن يتابع ما يجري في العالم اذا أعطي في الفندق غرفة مزودة بتليفزيون (وإذا لم ينقطع التيار الكهربائي بطبيعة الحال!) - ولكنني لم اكن من هؤلاء، حيث حمدت الله وقنعت بغرفة مزودة بالمياه، وتزورها المياه الساخنة زيارة عابرة كل ثلاثة أيام، وبسبب من ذلك فقد كنت من ضحايا ذلك الانقطاع عما يجري في الكرة الأرضية طيلة فترة الزيارة، إذ بالكاد كنا نعرف ما يجري في كابول، في حين يجري التعتيم في الأغلب عما يحدث خارجها، خصوصاً فيما يتعلق بعمليات القوات الأمريكية والاشتباكات المستمرة معها في الجنوب والشرق.
حين وضعت العناوين الفلسطينية جنباً إلى جنب وجدت أنها ترسم صورة خلاصتها أن الشعب الفلسطيني يتعرض للإبادة والتعذيب، كما أن القضية برمتها تتعرض للتذويب. وأدركت أن ما تنشره الصحف كل صباح هو في حقيقة الأمر عرض لإحدى حلقات ذلك المسلسل. فما من يوم إلا وهناك قتلى وقصف وتدمير للبيوت واعتقالات واستيلاء على الأراضي الفلسطينية، وتوسيع للمستوطنات، وتكثيف من الحواجز، واقتحام لمناطق جديدة. هي ليست قصة مكررة، لان التكرار يفترض أن تتحدث عن نفس الشيء محكوماً بإطاره المكاني والزمني. أما حين تتكرر الوقائع ذاتها على مسرح مختلف كل يوم، وفي إطار مكاني وزماني مغاير، فاننا نصبح بصدد شيء مختلف، اسمه جريمة مستمرة، وربما كان الادق أن يوصف بأنه مسلسل طويل يفضي إلى نتيجة عدمية يدمر فيها كل شيء، بحيث لا يبقى على مسرح الحدث سوى أطلال المباني وأشلاء البشر.
لا يحتمل المكان أن استعرض العناوين التي اعنيها، لكني احسب أن البعض منها يفي بالغرض. من هذا البعض مثلاً: احتلال قرية "بيت ابا" للمرة الرابعة - فلسطين سجن كبير وشعبها ينتظر "الفورة" (المقصود فترة السماح التي تعطى لنزلاء السجون لكي يخرجوا من الزنازين لرؤية الشمس والمشي لبعض الوقت في فناء السجن) - استشهاد فلسطينيين بقذائف دبابة إسرائيلية قرب نابلس - 10 أشخاص ضحية هدم منزل دمره الإسرائيليون - الأطفال الأسرى يعانون من التعذيب والإذلال في سجون الاحتلال - كارثة صحية: الأطفال الفلسطينيون يعانون من (الأنيميا) وآثار الغازات السامة - حواجز إسرائيلية تحاصر مدينة نابلس من الخارج وأخرى تقسمها من الداخل - حظر التجول يربك حياة الفلسطينيين و2 مليون ينامون ولا يعرفون على أي إجراء عسكري جديد يصبحون - جمعية إسرائيلية لحقوق الإنسان تتحدث عن استخدام الجيش الإسرائيلي قذائف محظورة - رخص حياة الفلسطينيين ظاهرة واضحة وحوادث قتل الأطفال والأبرياء زادت بصورة كبيرة (هاآرتس) - رئيس الأركان الإسرائيلي: الضربات الأمريكية "الوقائية" تبرر الاغتيالات بحق الفلسطينيين - شارون: اتفاقات أوسلو وترتيبات كامب ديفيد وطابا لم تعد قائمة - 15 دبابة إسرائيلية اقتحمت دير البلح - ليس في الثلاجة إلا الزعتر والأطفال يتضورون جوعاً - نقل جريحين إلى قلب جنين وقتلهما بدم بارد امام الأهالي - اسرائيل استخدمت في غزة قذائف محظورة تطلق آلاف القطع المسمارية لإيقاع اكبر عدد من الإصابات والقتلى.. وهكذا.
(3)
ليست هذه حرب، لان للحرب قوانين وأعرافاً وأخلاقا، وليس لشيء من ذلك وجود في المشهد. ولكننا بصدد حالة من الافتراس الهمجي الذي لا يدع وسيلة للإجهاز على الآخر إلا واستخدمها. وكلما استعصت الضحية وقاومت، اهتاج القاتل وازداد شراسة وخسة. وما التجويع المتعمد، ومنع الأدوية والأمصال، وإذلال الجميع، والمرضى في المقدمة منهم، عند الحواجز المنتشرة في كل مكان إلا من تجليات تلك الخسة.
وقعت على تقرير تحدث عن الكارثة الصحية في فلسطين، ونقل عن الدكتور عبد الجبار الطيبي مدير الرعاية الأولية بوزارة الصحة الفلسطينية قوله ان ما نسبته 45% من الأطفال دون سن الخامسة يعانون من الأنيميا، وان 55% من السيدات الحوامل يعانين من نفس المرض. وأضاف ان ذلك يحدث في الوقت الذي ازدادت فيه حالات نقص الوزن والطول عند الأطفال بنسبة تجاوزت 13%.
ذكر التقرير أن مصدراً طبياً في مستشفى دار الشفاء بمدينة غزة قال ان المستشفى استقبل حالة ولادة غاية في الغرابة، حيث وضعت سيدة فلسطينية طفلاً غير محدد الجنس، وجسده بدون أطراف، ويعاني تشوهات خلقية في الوجه، وقد ولد الجنين في حالة سيئة جداً، ولم يتجاوز وزنه كيلو جراما واحدا، بينما طوله لم يتجاوز 27 سنتيمتراً.
قال المصدر الطبي انه رغم أن هذه حالة استثنائية إلا أن حالات تشوه المواليد أصبحت ظاهرة في المجتمع الفلسطيني في ظل الانتفاضة، وهو ما حدث في السابق حين وقعت انتفاضة عام 1987. وذلك التشوه ناجم عن النقص الحاد في التغذية او نتيجة لاستنشاق الأمهات الغازات السامة والمواد الإشعاعية التي تطلقها قوات الاحتلال بين الحين والآخر، عن طريق الطائرات التي لا تكف عن التحليق في سماء المدن والقرى الفلسطينية.
تلك مجرد لقطة واحدة من فصل الخسة في سجل الافتراس الإسرائيلي للشعب الفلسطيني، واللقطات الأخرى المماثلة تفوق الحصر، وكلها تدور حول محور واحد مركب من التعذيب والإذلال وسحق الإرادة.
(4)
في الظلمة الحالكة تلمع أشياء من ذلك القبيل الذي يرد الروح إلى القلوب المتعبة والنفوس التي أصبحت عصية على الانكسار. نعم العمليات الاستشهادية تتربع على القمة، حيث تكفكف الدمع وتمسح الحزن وتحيي الأمل، لكن هناك ممارسات أخرى بسيطة تصب في ذات الوعاء. نابلس المحاصرة، التي يسكنها 200 ألف نسمة يصر الإسرائيليون على حصارهم وسجنهم، ومن ثم خنقهم وإذلالهم شهدت محاولات من ذلك القبيل. فبعد إغلاق المدارس او تدميرها، أقام بعض الناشطين مدرسة شعبية في إحدى ساحات المدينة القديمة، أطلقوا عليها (مدرسة شهداء نابلس). في تقرير نشرته صحيفة (القدس) اللندنية حول المشروع ذكرت ما يلي: الأطفال يحضرون مبكراً إلى الساحة ويبدأون بتجهيز المدرسة التي هي عبارة عن صناديق خضار فارغة يضعون فوقها ألواحاً خشبية ويرتبونها بشكل متواز ويقسمونها إلى أجزاء حسب صفوفهم، ويقفون بانتظام لحين وصول الأستاذ الذي سرعان ما يبدأ بتوزيع الأطفال على مقاعدهم الخشبية كل حسب عمره كي تبدأ الجولة الصباحية من التدريس بحيث تليها جولة أخرى في المساء.
التاسعة صباحاً هو موعد الحصة الأولى والتي يبدأ الأطفال بالنشيد وقراءة الفاتحة، ومن ثم يبدأ التدريس على مراحل متعددة بعد أن يقوم بعض المتطوعين من لجان البلدة بتوزيع الأقلام والدفاتر على الأطفال، وتقوم إحدى المؤسسات بتقديم ألواح صغيرة وطباشير يستخدمها الأطفال في الكتابة.
الحضور مكتمل باستثناء مقعد واحد ترك فارغاً.. انه مقعد الطفل الشهيد عبد الله سمير الشعبي (8 سنوات) الذي سقط في مجزرة نابلس مع باقي أفراد عائلته، وفاء له ترك زملاؤه مقعده فارغاً ووضعوا عليه إكليلا من الزهور.
يحضر الأطفال قبل موعدهم بكثير. تقول أم احمد التي أحضرت أطفالها إلى المدرسة (لقد فرحوا كثيراً عندما أخبرناهم بأنهم ذاهبون للمدرسة. لقد مر اكثر من أسبوع على بداية العام الدراسي والأطفال لم يذهبوا إلى مدارسهم الحقيقية، هم يدركون جيداً أن السبب وراء ذلك اسرائيل.. وإذا سألت أصغرهم سيجيبك ان هناك احتلالاً يحرمه من التوجه لمدرسته وتلقي العلم).
من نماذج الإضاءات أيضاً تلك الفكرة التي تبنتها مؤسسة "كرامة" في نابلس، بدعم من (مؤسسة إنقاذ الطفل) الفلسطينية، واختارت أن تسهم في مساعدة الأطفال الفلسطينيين على تجاوز أثار السجن الإسرائيلي. إذ جندت مجموعة من المتطوعين للترفيه عن الأطفال الذين اصبحوا أسرى للبيوت وضحايا للترويع المستمر. في كل المواقع التي تم بها البرنامج (البلدة القديمة - كروم عاشور - رأس العين - الجبل الشمالي - المساكن الشعبية - مخيمات عسكر القديم والجديد - عسكر البلد - قرية بيت ايبا) عقدت 18 ورشة للأطفال اشرف عليها 25 متطوعاً من الناشطين العرب والأجانب. ولإنجاح البرنامج الترفيهي قدم الأهالي بيوتهم لتكون ساحة آمنة تنظيم تلك الورشات، وشكل الآباء ساتراً لحمايتهم، وقدموا كل ما استطاعوا تقديمه لإنجاح المحاولة وجذب المزيد من الأطفال المقهورين إليها، وكان ولا يزال شعار البرنامج هو: "نصر أن نحيا".
(5)
إذ يستمر التعذيب والتجويع على ذلك النحو، فان عملية تذويب القضية وإزالة معالم الوطن مستمرة على قدم وساق. وقد جاء الإعلان الأخير لرئيس الوزراء الإسرائيلي بانتهاء اتفاقيات وتفاهمات أوسلو وكامب ديفيد وطابا، بمثابة إشهار لتلك العملية. إذ بمقتضى ذلك الإلغاء فان القضية الفلسطينية لم تعد مرتبطة بشيء، وإنما أصبحت معلقة في الفراغ بانتظار حدوث "شيء ما" في المنطقة، الأمر الذي لا يستغرب معه أن يشبه رئيس الوزراء الإسرائيلي شارون المرحلة "بحرب الاستقلال" في سنة 1948.
أن الشعار المرفوع الآن يدعو إلى حل القضية الفلسطينية وإيجاد الدولة بشرط واحد هو: تغيير السلطة وخلق سلطة جديدة لا تتعامل بالإرهاب وغير فاسدة، وديمقراطية. وهو ما أدركت منه الفصائل الفلسطينية المختلفة أن المطلب الحقيقي هو عزل حركة التحرير الوطني الفلسطيني عن أي شكل من أشكال الكيان الفلسطيني المطلوب، الأمر الذي يعني من الناحية العملية انهيار كل الآمال التي عقدت على النضال الفلسطيني طيلة الخمسين سنة الأخيرة. وهو ما يعني أيضاً تذويب السلطة وتذويب حركة التحرير الفلسطيني وإزالة الوطن الفلسطيني من خارطة المنطقة، إلى جانب استمرار القتل البطيء للفلسطينيين. كل ذلك على مرأى ومسمع من الجميع.
هل يمكن أن يرى المرء صورة بهذا الشكل، ويتركها لكي يتحدث عن أفغانستان؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.