الشغل الشاغل للجميع هو وقف العمليات الاستشهادية، هو هم إسرائيلي بامتياز، ولأنه كذلك فقد صار على رأس "أجندة" الإدارة الأمريكية. ولأسباب ليست خافية فتلك فرضته على القيادة الفلسطينية، وعلى بعض العواصم العربية . وهو ما كثف من الضغوط على فصائل المقاومة، التي تتداول الآن "وثيقة" بهذا الخصوص. وبتغير مسار الريح على ذلك النحو انقلب الحال رأساً على عقب، وتحولت الساحة الفلسطينية إلى مسرح عبثي، تراجع فيه شعار تحرير فلسطين وأصبحت "القضية" مختزلة في تحرير الإسرائيليين من الخوف، وتخليصهم من رعب العمليات الاستشهادية. (1) ذات صباح في الأسبوع الماضي، وقعت على خبر يجسد ذلك العبث الذي يتجاوز قدرة العقل على التصديق، إذ وجدته مسكوناً بسبع من عجائب دنيا السياسة في هذا الزمان. موضوع الخبر هو زيارة وفد السلطة الفلسطينية إلى واشنطون، الذي ضم من بين أعضائه وزير الداخلية الجديد اللواء عبد القادر يحيى، أما العجائب السبع التي تضمنها فكانت كالتالي: عقد الوفد في واشنطون عدة اجتماعات مع رئيس المخابرات المركزية الأمريكية لبحث تنظيم واستقرار الأوضاع الأمنية في الأرض المحتلة - واتفق الطرفان على إنشاء وحدات فلسطينية لمكافحة الإرهاب - وستكون المهمة الأساسية لتلك الوحدات هي منع الهجمات الفلسطينية ضد إسرائيل (بالدقة حصار المقاومة وتكبيلها وإجهاض عملياتها)- وستقوم اثنتان من الدول العربية بتدريب عناصر تلك الوحدات - وسيتم ذلك تحت إشراف المخابرات المركزية - وصف الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات محادثات واشنطون بأنها "إيجابية للغاية" - غير أن بعض المصادر السياسية في رام الله أعربت عن قلقها إزاء المعلومات التي تسربت بشأن الاتفاق، مشيرة في ذلك إلى أن الوحدات المستجدة ستعمل خارج القانون ! كل جملة في الخبر تصلح بحد ذاتها لكي تكون موضوعاً للزاوية التي تنشرها الصحف والمجلات تحت عنوان "صدق أو لا تصدق". ذلك أن الجيل الذي عاصر مراحل الصراع خلال نصف القرن الأخير، واستقرت في مداركه صورة معينة للمخابرات المركزية، واستوعب حقيقة المشروع الصهيوني ومقاصده، وآمن بقضية التحرير وضرورة المقاومة، وأن ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة، هذا الجيل لابد وأن يرى في كل جملة بالخبر صدمة تزلزل كيانه وتصيبه بخليط من الدهشة والذهول. بل إنني أزعم أن أي وطنى لم يفقد وعيه في زماننا سوف يمتد إليه الشعور بالصدمة حين يجد في نهاية المطاف أن وحدات فلسطينية مدربة عربياً بإشراف المخابرات المركزية، هي التي تلاحق المقاومة وتجهض عملياتها، وأن هذا المسلك أصبح بديلاً عن التمسك بحق المقاومة والالتزام العربي بالدفاع عن ذلك الحق، وتعزيز الصمود الفلسطيني. (2) يوم نشر ذلك الخبر البائس بثت وكالة الأنباء الفرنسية صورة لبعض الفلسطينيين الذين اعتقلتهم القوات الإسرائيلية في بلدة "بيت لهيا" وقد سيقوا حفاة بثياب النوم، فيما عصبت أعينهم وقيدت أيديهم، وكان التركيز في الصورة على أحدهم وقد دُفن واقفاً في حفرة، وظهر ثلثه العلوي على تلك الهيئة: منكس الرأس ومعصوب العينين ومقيد اليدين، على نحو يذكرنا بالصور البشعة التي التقطت لمعتقلي "جوانتانامو" لدى وصولهم إلى الجزيرة الكوبية، وكانت ناطقة بالمذلة والقهر. تصادف أيضاً أن نشرت صحيفة "القدس العربي" صورة على أربعة أعمدة للطفلة لميس القريني ابنة السنوات السبع، التي قتل قناص فلسطيني أباها أحمد القريني، الموظف بقسم الحركة في طوارئ بلدية نابلس. بينما كان جالساً داخل سيارة إنقاذ تابعة للبلدية. كان وجه "لميس" غارقاً في الدموع. وجسدها يتلوى من الفجيعة، وصراخها يتردد في جنبات مستشفى "الاتحاد" بالمدينة وهي تنادي الأب بصوت مكلوم يهز الجدران ويقطع نياط القلوب قائلة: أريدك يا أبي، لا تذهب بعيداً. مثل هذه الصور ليست فريدة في بابها، ولكنها جاءت تسجيلاً للحدث اليومي، الذي أصبح نمطاً للحياة الفلسطينية في ظل الاحتلال الإسرائيلي الوحشي، حيث لم يعد أمام الناس سوى أحد خيارين: الإذلال أو الموت. والأسير الفلسطيني الذي عصبت عيناه وكبلت يداه ودفن ثلثا جسمه لم يكن سوى رمزاً للمذلة المفروضة، أما الشهيد أحمد القريني فقد كان واحداً ممن لاحقهم الموت المجانى وهو قابع داخل سيارة الانقاذ - خرج لينقذ غيره غير مدرك أن الدور قد حل عليه لكي ينضم إلى قافلة الضحايا. هي مصادفة لا ريب، أن يتزامن نشر خبر تشكيل وحدات "مكافحة الإرهاب" الفلسطينية مع ظهور الصورتين السابقتين في الصحف العربية، كأن الأقدار أرادت بذلك أن تبرز المفارقة (تفضحها إن شئت الدقة). إذ صار المطلوب أن يستمر الخيار بين الإذلال أو الموت، شريطة أن يكون الموت بالرصاص الإسرائيلي، ومحظور على الفلسطيني أن يختار الموت شهيداً، وإنما يراد له أن يرحل عن الدنيا قتيلاً، بحيث يظل موته - حتى موته!- بقرار إسرائيلي استكمالاً لمسلسل المذلة والهوان. وهو ما قد نفهمه حين يصدر عن الإسرائيليين والأمريكيين، لكن المذهل في الأمر أن يحدث توافق فلسطيني على ذلك المعنى - وإن تم بغير قصد. (3) لا أعرف أمة تعاملت مع شهدائها بمثل هذا الأسلوب. الذي يتراوح بين الإنكار والاتهام والاحتقار. ذلك أن الذين عارضوا العمليات الاستشهادية اعتبروها إرهاباً أو انتحاراً في أحسن الفروض، أما الذين دافعوا عنها فقد ادعى بعضهم أن الذين يقومون بها هم شباب محبط ويائس، وجد فيها حلاً لأزمته ! هذا المشهد بحد ذاته يعد أحد أوجه العبث الذي يعبر عن الخلل في الرؤية والفساد في معايير القياس والتقييم. وليس عندى كلام مع الذين يعتبرون المقاومة إرهاباً، أو أقرانهم الذين ينعتون العمليات الاستشهادية بتلك الصفة، لكنى أدهش من أولئك الذين يضنون على الفدائيين بوصف الشهداء، ويصرون على اعتبارهم انتحاريين. ولا أستطيع أن أخفي دهشة مقرونة بالحزن إزاء الدفاع عن عملياتهم بمرافعة تنطلق من نسبة اليأس والإحباط إليهم. ويتضاعف الحزن حين يصدر هذا الكلام عن بعض كبار أهل السياسة والفكر (خطر لي أن استخدم في وصفهم كلمة "الرموز"، لكني تراجعت بعد ابتذال المصطلح في الآونة الأخيرة). كأن الفدائي الفلسطيني إنسان منزوع الكرامة، ومضنون عليه بالعزة والكبرياء. كأنه مخلوق بلا ضمير أو حلم، لا يحركه محبة لوطنه أو دفاع عن شرف أمته وعرضها، أو غضب لكرامته وكبريائه. وكأنه لا يرى في الشهادة قيمة عظمى وفعلاً جليلاً يستجلب به رضا ربه ويتطلع إلى الفوز بجنته، لكي يُحشر مع النبيين والصديقين وكوكبة الشهداء الأبرار الذين تحدث عنهم النص القرآنى. إنهم لا يريدونه كذلك، بل أنهم يضاعفون من إهانته بذلك التبرير العليل والعاجز، الذي ينكر عليه البطولة والفداء ولا يرونه إلا محبطاً ويائساً. الشهيد ليس يائساً أيها السادة، وشتان بين المعنيين. فاليائس مهزوم وفاقد للأمل وكاره للحياة بأسرها. والشهيد جسور ومفعم بالأمل وكاره للذل والظلم. واليائس مخلوق منكسر يحل مشكلته بإنهاء حياته، والشهيد ملأ الإيمان قلبه وقرر أن يفتدي وطنه وأمته بروحه، مطمئناً إلى أنه بما يفعل يبدأ حياة جديدة في رحاب الله. اليائس وجد الحياة بلا معنى فتخلص منها بالانتحار، والشهيد أراد أن يكون للحياة معنى ففجر نفسه في جسم العدو، لكي يضيئها للآخرين. يستحيي المرء من المضي في المقارنة التي تعد بذاتها "شهادة" تدين زماننا، حتى لا يخطر على البال أن يجد الواحد منا نفسه مضطراً في لحظة ما لأن يدافع عن كرامة الشهيد، ويزيح عن وجهه الأوحال والتهم التي يرمى بها، بعد أن قدم دمه وروحه فداء لوطنه وأمته، وعربوناً لكرامتها وعزتها. وإذ يحدث ذلك والأمة مهزومة ومنكسرة، وتتلمس شعرة كبرياء تتعلق بها، فإن المشهد العبثي يبلغ ذروته على نحو يجعل الحليم حيراناً. (4) في الوصية التي تركها الشهيد (محمد هزاع الغول) قبل انطلاقه نحو هدفه وتفجير نفسه، كأنه كان يرد على أولئك الذين هونوا من شأن الفعل واتهموه وأقرانه بالاستسلام لليأس والسعي للتخلص من الحياة. إذ قال بعبارة واضحة أنه ذهب لأداء واجبه "ليس حباً" في القتل، ولكن لنحيا كما يحيا الناس، فنحن لا نغني أغنية الموت بل نتلو أناشيد الحياة. ونموت لتحيا الأجيال من بعدنا. هذا المعنى سجله بصورة أو أخرى العديد من الشهداء، الشبان والشابات، الذين عبرت وصاياهم عن درجة عالية من اليقين والعزة والفداء. إن الذين يسفهون العمليات الاستشهادية وينتقصون من قدر أبطالها، يلغون التاريخ، ويتجاهلون الملابسات التي أفرزتها. فهم ينسون مثلاً - بعضهم يتناسون - أن المقاومة لم تبدأ بذلك النوع من العمليات، وإنما انتهت بها. فمنذ الثلاثينيات والفلسطينيون يمارسون مختلف صور الاحتجاج السلمي على التغول الصهيوني، وانتفاضتهم في عام 87 اشتهرت بأنها انتفاضة "الحجارة". وقد لجأت فصائل المقاومة إلى السلاح حين أدركت أن إسرائيل تستخدم اتفاقيات السلام وعنوانها لتكريس الاحتلال وإدامته، في البدء كانت عمليات المقاومة تستهدف الأهداف العسكرية وحدها، وبعد مذبحة الحرم الإبراهيمي الذي قُتل فيها أحد متعصبى الصهاينة أكثر من عشرين مصلياً فلسطينيا، ردت المقاومة بتوسيع دائرة عملياتها في العمق، وضد ما يسمى تجاوزاً بالأهداف "المدنية". وإزاء فقدان الأمل تماماً في العملية السلمية، وبعد الاندفاعات الإسرائيلية نحو استجلاب المستوطنين (مليون ونصف مليون استجلبوا بعد اتفاقيات أوسلو)، التي اقترنت بالتوسع الوحشي في المستوطنات، واستمرار سياسة مصادرة أراضي الفلسطينيين وتجريف زراعاتهم، وحصار مدنهم وتحويل الضفة والقطاع إلى مجموعة من المعازل، مع مواصلة حصار الفلسطينيين وتجريدهم ورفع شعار "المذلة والركوع أو الموت". إزاء ذلك كله وبعد أن أعلنها شارون حرباً مفتوحة، كان من الطبيعي أن تتحول العمليات الاستشهادية إلى سلاح للمقاومة الوطنية، فضلاً عن الإسلامية، سلاح يعبر عن رفض الفلسطينيين وتحديهم لسياسة الإذلال والتركيع، ويبعث للإسرائيليين برسالة مكتوبة بالدم تبلغهم بأن الاحتلال له كلفته الباهظة والموجعة. وقد وصلت الرسالة بالفعل كما سنرى تواً. جدير بالذكر في هذا الصدد أن الشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة حماس عارض أكثر من مرة اقتراحاً بوقف العمليات الاستشهادية ضد "المدنيين" الإسرائيليين، مقابل وقف استهداف المدنيين الفلسطينيين، كما اقترح عقد تفاهم في هذا الصدد مع الإسرائيليين، على غرار "تفاهم نيسان" - أبريل - بين حزب الله فى لبنان وسلطات الاحتلال، لكن مقترحاته هذه قوبلت بالصد والرفض. وبدا أن المطلوب أن يوقف الفلسطينيون عملياتهم، بينما تطلق يد الجيش الإسرائيلي والمستوطنين في ضرب الأهداف الفلسطينية واستمرار قتل الفلسطينيين بغير تميز ولا حساب. (5) فيما بين أول عملية استشهادية في 16/4/93، وحتى اندلاع انتفاضة الأقصى في نهاية شهر سبتمبر عام ألفين سجلت 30 محاولة للقيام بعمليات استشهادية، نفذت منها 24 عملية، أما الفترة الواقعة من بداية انتفاضة الأقصى وحتى مطلع شهر أبريل الماضي، فقد سجلت 153 محاولة، نفذت منها 102 عملية. ومنذ ذلك التاريخ وحتى أول شهر يوليو نفذت 18 عملية، بينما زاد عدد المحاولات على خمسين. وهو ما يعني تزايد إقبال وإصرار الشعب الفلسطيني على تحدي الاحتلال الإسرائيلي، برغم مضاعفة ما يستخدمه من وسائل البطش والقهر. في هذا الصدد ذكر الكولونيل جال لوفت - وهو ضابط كبير سابق في الجيش الإسرائيلي - في عدد مجلة "فورين افيرز" الأخير (يوليو-أغسطس) أن 39 عملية للاستشهاديين أودت بحياة 70 إسرائيلياً وجرحت أكثر من ألف، في حين أن الخسائر التي نجمت عن إطلاق 39 صاروخاً عراقياً من طراز "سكود" (عام 1991) أودت بحياة 74 إسرائيلياً فقط، معظمهم مات نتيجة للسكتة القلبية. موضوع مقال الكولونيل لوفت في المجلة الأمريكية المهمة كان يناقش مسألة القنبلة البشرية الفلسطينية، وذكر فيه أن إسرائيل لم تستشعر في تاريخها أذى مثيلاً لذلك الذي ألحقته بها العمليات الاستشهادية (يسميها الانتحارية). ورغم أنها نجحت في استخدام ونشر النظام الدفاعي الصاروخي "ارو"، لمواجهة صواريح "سكود" العراقية، بتكلفة 2 مليار دولار، إلا أنها لم تملك ما ترد به على القنبلة البشرية الفلسطينية غير بناء الأسوار الشائكة. وخلص من ذلك إلى أن إسرائيل بصدد "عدو" لا يمكن القضاء عليه، ومن ثم لا يوجد حل عسكرى للمشكلة. (من الملاحظات التي أوردها في هذا السياق وهو يعبر عن مأزق الإسرائيليين، أنهم يثقون في دباباتهم وجيشهم، بينما الفلسطينيون يضعون ثقتهم في الله. وبسبب إيمانهم ذاك فلن تستطيع إسرائيل أن تحقق إنجازات استراتيجية في مواجهة الفلسطينيين، رغم قدرتها على تحقيق الإنجازات التاكتيكية). الباحثة البريطانية هيلينا كوبان المتخصصة في الشرق الأوسط قامت بزيارة إلى فلسطين وإسرائيل وعادت بانطباع مماثل عرضته في سلسلة مقالات نشرتها صحيفة الحياة اللندنية (ابتداء من 31/7)، وقد نقلت على لسان أحد كبار المسئولين في الخارجية الإسرائيلية قوله: إننا نشعر بالخوف رغم قوة جيشنا، ولا تصدقوا أي إسرائيلي ينكر ذلك، حتى غلاة اليمين الذين يطالبون بطرد العرب فإن الخوف يظل كامناً في أعماقهم. أشرت قبلاً إلى ما كتبه في هذا المعنى توماس فريدمان الصحفي الأمريكي اليهودي المتعاطف مع إسرائيل، حين قال في مقال نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" أن العمليات الاستشهادية سببت وجعاً لإسرائيل لم تسببه لها الجيوش العربية طيلة خمسين عاماً، وأن إسرائيل كانت مستعدة تحت ضغط تلك العمليات للانسحاب من الضفة الغربية كلها لتجنب الترويع الذي أحدثته العمليات "الانتحارية". إذ يوضح لنا ذلك لماذا أصبح وقف تلك العمليات الشغل الشاغل لإسرائيل والولايات المتحدة، إلا أنه يضاعف من عجزنا عن فهم اللغز الآخر، المتمثل في الموافقة على تشكيل وحدات فلسطينية لإجهاض تلك العمليات، بدعوى مكافحة الإرهاب. فهل عندكم حل لهذا اللغز ؟!