اكثر ما اخشاه ان تضيع منا كليات الصراع الدائر على ارض فلسطين، وسط سيل الاخبار التي تتدفق يوميا حول الاجتياحات والمداهمات والاعتقالات والاغتيالات وغير ذلك. فالذي يحدث الآن في فلسطين ليس حربا ضد السلطة، ولا هو محاولة لاغلاق ملف القضية وانما هو يستهدف تصفية الوجود للشعب الفلسطيني ذاته. ان شئت فقل انه نوع من الابادة المادية والسياسية في آن واحد التي لها ما بعدها. وتلك هي الجريمة الكبرى التي تتم الآن تحت اعين الجميع. (1) يوم السبت 6/7 كانت اسرة محمد الهندي عائدة الى بيتها في خان يونس، بعد ان شاركت في حفل زفاف احد الاقارب في غزة. تعجلت الام رندة في العودة المبكرة، قبل الزحام وتحسبا لاية طوارئ تحدث على الطريق. انحشر الجميع في سيارة الاسرة من طراز (فولكس واجن)، اذ كان عددهم ثمانية اشخاص. سلكوا الطريق الساحلي في السادسة صباحا من غزة الى خان يونس، حيث لم يكونوا وحدهم، وانما انضموا الى رتل صغير من السيارات. ما ان اقتربت (الفولكس) من محطة (الجعل) على طريق البحر حتى انهالت على ركابها طلقات الرصاص من ابراج المراقبة المقامة على حدود مستوطنة (نتساريم) الإسرائيلية، التي تبعد نحو كيلو متر من الشاطئ. كان الرصاص كثيفا وزخاته تلمع وسط الضباب الكثيف المخيم على المكان، والذي كاد يمنع الرؤية. بقية الحكاية روتها نرجس الهندي زوجة الابن، التي كانت جالسة الى جوار حماتها رندة: (حين دوت طلقات الرصاص احتضنت عمتي بقوة طفلتها نور التي لم تتجاوز سنتين من العمر، وانحنت فوقها، بينما اسرع عمر (الابن) بالسيارة لكي يتجاوز منطقة ضرب النار. وحين توقف اطلاق الرصاص، انعطف عمر بالسيارة جانبا وتوقف لكي يلتقط انفاسه. طلبت من عمتي ان ترفع رأسها لكنها لم ترد على. صرخت وحاولت تحريكها فاكتشفت ان رأسها ووجهها من الناحية اليسرى مكسوان بالدماء. نظرت الى نور، واذهلني ما رأيت. كان رأسها مهشما تماما. حيث اصابته رصاصة مباشرة. كان المشهد مرعبا. فبجواري عمتي غارقة في دمائها، وعلى حجرها طفلتها نور بلا رأس تقريبا، وقد تناثر دماؤها على المقعد، وعلى ثياب العمة التي كانت بلا حراك. كل ما فعلته انني وضعت رأسها على كتفي، ورحت اصرخ منادية الاثنتين: عمتي ونور). ظهر السبت بثت وكالات الابناء الخبر التالي: قالت مصادر طبية في مستشفى شهداء الاقصى في (دير البلح) (20 كيلو مترا جنوبغزة) ان رندة خالد الهندي (44 عاما) وطفلتها الرضيع نور محمد الهندي (عامان) وصلتا الى المستشفى جثتين هامدتين. واضافت المصادر ان الطفلة نور كانت بلا رأس تقريبا، اذ تهشم رأسها برصاصة من النوع الثقيل، كما ان الام وصلت مصابة بأعيرة نارية مماثلة في مختلف انحاء جسمها، وقال شهود عيان ان جنود الاحتلال المتمركزين في ابراج المستوطنة اطلقوا النار بكثافة في اتجاه عدد من السيارات المارة على الطريق الساحلي بين مدينتي غزة وخان يونس، مما ادى الى مصرع رندة الهندي وطفلتها، واصاب عددا آخر من المسافرين بجروح مختلفة، ونقلوا على اثر ذلك الى المستشفى. (2) يقشعر بدن الواحد منا وهو يقرأ التفاصيل. لكن الحادث اصبح يمثل لسكان الارض المحتة خبرا عاديا ويوميا. فلا الام رندة هي اول النساء اللاتي قتلن، ولا الطفلة نور آخر الاطفال الذين هشمت رؤوسهم. ذلك ان شبح الموت اصبح يظلل الجميع، لا من خرج من بيته مطمئن الى انه سيعود سالما، ولا الذي اعتصم ببيته واثق من انه في مأمن من الموت. في ذات اليوم الذي نشر فيه خبر مقتل الام وطفلتها، قتلت القوات الإسرائيلية خميس فهمي شراب (46 عاما) في منطقة (قيزان ابو رشوان) ودمرت جرافة تحرسها دبابتان موقعا امنيا فلسطينيا تابعا للقوات الحدودية جنوب معبر (صوفاة) شرق مدينة رفح. وتوغلت قوات الاحتلال في منطقة الغربة التابعة لبلدة بيت حانون، شمالي قطاع غزة، وصولا الى ابراج الندى القريبة. واعلن ان ثلاثة من الاسرى في مستشفى سجن (نفية ترتسا) يواجهون خطر الموت، احدهما مصاب بفشل كلوي ويحتاج الى جراحة سريعة، والثالث مصاب بتلوث خطير يهدده بالشلل. والثلاثة نزلاء معتقل انصار 3 الذي كان قد اغلق في عام 95م، ثم اعيد افتتاحه في اعقاب الانتفاضة الاخيرة، ليصبح ساحة لتعذيب الفلسطينيين واذلالهم. ونقلت الوكالة الفرنسية في رام الله ان شبانا فلسطينيين كان قد اطلق سراحهم من احد السجون الاسرائيلية، لكنهم سجنوا مرة اخرى وهم في طريق عودتهم الى بيوتهم. وهو ما اكتشفته اسرة احدهم (عبدالهادي 21 سنة) بعد اربعة ايام من اختفائه اثر الافراج عنه، ونشرت الصحف صورة لاثنين من الشبان ظهرا شبه عرايا وقد غطيت اعينهما، وكبلت ايديهما وراء ظهريهما، بينما وقف جندي إسرائيلي صغير السن، مدجج بالسلاح وتعلو وجهه ابتسامة بلهاء. وادعت إسرائيل ان العربيين كانا بصدد القيام بعملية ضد المستوطنين في غزة. كما نشرت تقارير صحفية اخرى عن عذابات آلاف الفلسطينيين الذين تجمعوا عند معبر رفح او في اريحا، في انتظار اللحاق بابنائهم وعوائلهم الذين اعتادوا السفر اليهم خلال فترة الصيف، وكيف ان معبر رفح مثلا لا يفتح الا خمس ساعات يوميا، ويتعرض الفلسطينيون الى تفتيش طويل ومهين، بحيث لا يتمكن اكثر من مائة او مائتين على احسن الفروض من العبور كل يوم، في حين ان المعدل الطبيعي للعبور في السنوات السابقة كان ثلاثة آلاف شخص يوميا. وهذه المعاناة المقترنة بالذل تحدثت عنها تقارير اخرى عالجت اوضاع سكان المدن التي اعيد احتلالها، والتي تخضع لحظر التجول الا في ساعات محدودة خلال النهار. بل ان محافظ طولكرم العميد عز الدين الشريف ذكر في تصريح صحفي ان منع التجول لم يرفع عن المدينة التي يسكنها 90 الف نسمة طيلة ثمانية ايام متواصلة، الامر الذي حولها الى مدينة اشباح. وقال ان هناك عشرة آلاف طفل بحاجة الى تطعيم طبي لا يتوفر لهم، ذلك غير عشرات النساء الحوامل اللاتي يواجهن صعوبات جمة، خصوصا في ظل شل حركة الطواقم الطبية والاسعاف. هذه عناوين يوم واحد في الزمن الفلسطيني المجلل بالدم والمسكون بالمذلة والمهانة، هو السبت السادس من شهر يوليو الحالي. ليس كل العناوين بالتأكيد، ولكنها بعضها الذي تناقلته صحف ذلك الصباح. (3) لكي تكتمل صورة الجحيم في الارض المحتلة فان الذين كتبت لهم الحياة، وظلوا خارج السجون ولم يساقوا الى المعتقلات المقامة وسط الصحراء، تلهب إسرائيل ظهورهم وتحاول تركيعهم وكسر ارادتهم من خلال سياسة التجويع المتعمد، التي تسير جنبا الى جنب مع سياسة الاهانة والاذلال، ان شئت فقل ان عملية التجويع هي احدى حلقات تلك السياسة. اشرت توا الى ما حدث في طولكرم، التي منع التجول فيها تماما لمدة ثمانية ايام، بحيث لم يجرؤ احد على مغادرة بيته طيلة تلك المدة، ولم يكن بوسع اي بيت ان يدبر حاجته من الخبز او الحليب او الماء، ناهيك عن الدواء. وما جرى في طولكرم يتكرر يوميا في بقية مدن وقرى الضفة، الامر الذي اصاب الحياة بالشلل وضاعف من عذابات الناس. وهم الذين تعطلت اعمالهم وانقطعت بهم اسباب الرزق. لقد بدأت الاحصاءات الإسرائيلية، وليست الفلسطينية تتحدث عن نسبة عالية جدا من العاطلين عن العمل في الارض المحتلة، بالمقابل فان مركز السكان وحقوق العاملين الفلسطيني، ذكر ان معدل البطالة بين الفلسطينيين وصل الى 65% في حين وصلت معدلات الفقر الى مستوى غير مسبوق وهو 75%. وذكرت الصحافة الإسرائيلية (يديعون احرونوت) ان وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الاونروا) لم تعد تعنى باللاجئين بل بمليون و800 الف معوز، والصليب الاحمر لم يعد يعالج قضايا الاسرى بل يعالج ايضا المساعدة المعيشية الحقيقية.. وفي كل شهر يفكر 130 الف شخص يعملون موظفين، ما اذا كانوا سيحصلون اصلا على رواتبهم. وبرغم معرفة الحكومة الإسرائيلية لهذه الارقام فانها تواصل سياسة التجويع، الامر الذي يعني ان السياسة متعمدة، ولها اهدافها ضمن المخططات الإسرائيلية. في اطار سياسة التجويع تقوم إسرائيل بعرقلة وصول المساعدات، سواء تلك التي تصل من منظمات اهلية دولية، او التي يرسلها العرب، او تك التي يرسلها الفلسطينيون من داخل دولة إسرائيل. وكان المركز القانوني للاقلية العربية في إسرائيل (عدالة)، قد بعث برسالة طالبا التدخل الفوري لرفع الحصار عن طولكرم، ولفتت الرسالة الى القانون الدولي يحتم على جيش الاحتلال توفير الحاجات الاساسية للمدنيين، وقبل ذلك بايام، طالبت اثنتان وثلاثون منظمة انسانية، من بينها (كير) و(اوكسفام) و(اطباء بلا حدود) إسرائيل بتوفير منافذ ملائمة لموظفي الاغاثة، تمكنهم من الوصول الى المواطنين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وقال بيان صادر عن تلك الوكالات: نحن نتعرض لتعطيل زائد عند نقاط التفتيش العسكرية، واصبحنا عاجزين عن الوصول الى المدنيين المحتاجين الى مساعدات. اتباع هذه السياسة كان له صداه في الاوساط الإسرائيلية ذاتها، التي تخوفت من ان تؤدي عملية التجويع الى تشجيع الفلسطينيين الى الاقدام على المزيد من العمليات الاستشهادية، باعتبار ذلك حلا وحيدا تبقى لهم. ففي الكنيست حذر يوسي ساريد من (كارثة انسانية) في الاراضي الفلسطينية. وقال لاذاعة الجيش الإسرائيلي: (كان على بوش ان يعرف ان خطابه سيفتح الطريق امام اعادة احتلال الاراضي الفلسطينية ووقوع كارثة انسانية)، وقال ساريد: (يجب تذكير الرئيس بوش وارييل شارون ان تجويع السكان المدنيين جريمة ضد الانسانية ينبغي محاسبة المسؤولين عنها). اما داخل المجلس الوزاري الامني المصغر، فقد تحدث شمعون بيريز وزير الخارجية قائلا: (ان إسرائيل تمارس عقوبات جماعية في المناطق، وهذا غير صحيح وغير حكيم وغير اخلاقي. والسياسة الحالية تنشئ وضعا خطيرا للغاية ولابد من تصحيحه قبل فوات الاوان). وشهد ذلك الاجتماع نقاشا صريحا عن استعمال التجويع كسياسة لجعل الناس يتحركون ضد السلطة الفلسطينية، فقدم قادة الاجهزة الامنية تقارير تقول: (ان الغضب داخل المناطق الفلسطينية اصبح موجها بالتساوي ضد إسرائيل وضد السلطة الفلسطينية.. فاذا خففت إسرائيل معاناتهم فان النسبة ستميل الى صالحها). (4) بالاضافة الى ما اصاب البشر من قهر واذلال وتدمير للذات في الحملة الراهنة، يلفت النطر لاريب المدى الذي ذهبت اليه إسرائيل في محاولتها تدمير المرافق والهياكل ومقومات استمرار الحياة في الضفة والقطاع. اذ على مرأى ومسمع من العالم، قامت إسرائيل بتدمير شبكات المياه والكهرباء والهاتف، وشبكات الطرق والصرف الصحي والمرفأ والمطار، ومباني الشرطة والامن والدوائر الرسمية، ومباني وزارات السلطة. وقسم كبير من المدارس والورش الصناعية وتجريف مساحات واسعة من الاراضي الزراعية، الى جانب الدمار الواسع في الاحياء السكنية الفلسطينية، التي دمر بعضها على قاطنيها. هذا التدمير الوحشي واللا انساني لايمكن ان يسمى حربا، اذ للحرب قواعد وقوانين واعراف واخلاقيات، لكن الحاصل تجاوز ذلك كله. ان شئت فقل انه نوع من الافتراس للبشر والاكتساح للمكان. وذلك لايمكن ان يكون قد تم بدافع الانتقام وحده او حتى ضرب البنية التحتية للمقاومة، وهو الذي يمكن ان يتحقق بعشر معشار تلك الاجراءات المجنونة. وتبرير الحاصل بحسبانه نوعا من (الدفاع عن النفس) هو مزحة سمجة، تنم عن جهل فاحش او سوء قصد، او الاثنين معا. هذا الذي يحدث لا يمكن ان يفسر الا بحسبانه محاولة لتهديم كل مرتكزات الوجود المادي للشعب الفلسطيني على ارضه بحيث يصبح ذلك الوجود او ما تبقى منه هو الجحيم بعينه، الذي لا تحتمله طاقة البشر. وليست هذه نهاية المطاف، لانني ارى في الافق محاولة لاستعادة المشهد الذي تم اثر هزيمة 67، حيث شهدت الارض الفلسطينية حركة نزوح واسعة النطاق باتجاه شرق الاردن. بكلام اخر، فان الجحيم الذي يقام الآن في الضفة والقطاع، يراد له ان يمهد الطريق لذلك النزوح الذي يحلم به شارون وجماعته من قوى اليمين، الذين يعتبرون الظروف الراهنة مهيأة تماما لتقليص الوجود الفلسطيني، واجبار اعداد كبيرة من الفلسطينيين على النزوح وترك البلاد هربا من الجحيم، دون صدور قرار بالطرد او الترحيل (ترانسفير). انهم لن يطردوا احدا حتى لا يسئ ذلك الى سمعتهم دوليا، لكنهم سيصلون الى ذات النتيجة عن طريق خلق (ظروف طاردة) تحقق المراد دون ألم! (5) لماذا يريدون طرد الفلسطينيين واستئصالهم؟ عند المتدينين اليهود وسطوتهم في الحكم كما نعرف الموقف محسوم. فالتشريع الحربي واضح في سفر (التثنية)، الذي يتضمن نصا يقول: واما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك، فلا تستبق منها نسمة، بل تحرمها تحريما (اي تبيدها بالكامل). وحسب تفسيرات النص، فان الربانيين اليهود يقولون ان تلك الشعوب التي يجب ان تباد، هي القبائل الكنعانية العربية التي وجدت في فلسطين منذ فجر التاريخ. اضافة الى هذه الخلفية التوراتية فهناك حسابات استراتيجية اخرى. خلاصتها ان تعداد سكان إسرائيل حقق قفزة تاريخية خلال السنوات العشر الاخيرة، حيث ارتفع من 4 ملايين الى خمسة ملايين ونصف المليون وتسعى حكومة شارون الى استجلاب مليون يهودي آخر خلال العقد الحالي لتعزيز الوجود السكاني اليهودي، وتمكينه من الصمود امام التزايد السكاني الفلسطيني، خصوصا بعدما بينت الاحصاءات انه في سنة 2020م سيمثل العرب 55% من سكان فلسطين بينما لن تتجاوز نسبة الإسرائيليين 45%. واليوم يعيش في فلسطين ما بين البحر والنهر تسعة ملايين نسمة، الامر الذي يشكل ضغطا هائلا على الموارد، وخاصة المياه. اذ تبلغ الكثافة السكانية في فلسطين تسعة اضعاف في الاردن، وتسعة اضعاف مثيلتها في سوريا. وازاء نسبة النمو العالية بين الفلسطينيين (4ر3%) فقد ادركت النخبة الإسرائيلية ان اي انسحاب واسع من اراضي الضفة الغربية سوف يشكل كارثة للمشروع الصهيوني، وستتضاعف الكارثة اذا ما عادت الى فلسطين اعداد من اللاجئين (توقعوا ان يعود ما بين مليون ومليون ونصف لاجئ). بسبب هذه الحقيقة السكانية المهمة في الحسابات الإسرائيلية كان لابد من التراجع عن اتفاق اوسلو، والغاء فكرة الانسحاب، وهذا ما تم بالفعل. وبعد ان اطلقت الولاياتالمتحدة يد إسرائيل في الضفة والقطاع خصوصا بعد خطاب الرئيس بوش الاخير فان الظرف اصبح مواتيا للذهاب الى ما هو أبعد، واستئصال الوجود الفلسطيني قدر الامكان من الضفة والقطاع، للتخفف من عبء السكان والاعداد لاستقبال المهاجرين الجدد، وهذا ما يجري تنفيذه الآن انتهت الحكاية!!