وامتدادا للمقالات السابقة عن فن الرواية، وكيف أنها ابنة عصرها ولا يمكن لها أن تكون تاريخية. الرواية التاريخية وما تتضمن من شخصيات وأحداث لا تعكس حقيقة ذاك العصر القديم مهما حاول الكاتب تحري الدقة والموضوعية. فالروائي حين يكتب رواية تدور أحداثها في عصر السلاجقة فإن المصادر التاريخية لا تسعفه لبناء عالم روائي متكامل يحكي تفاصيل الحياة وسلوك الأفراد وعاداتهم وتقاليدهم، فهو مضطر أن يفبرك الأحداث ويخلق هجينا بين الماضي والحاضر لتخرج روايته المفبركة إلى بر الأمان، وتحقق الحد الأدنى من شروط ومعايير الرواية. رواية «غرابة في عقلي» للكاتب التركي أورهان باموق نموذج للرواية المتكاملة العناصر وذات الجودة الفنية العالية. تحتوي الرواية على كل شيء، الخلفية التاريخية وقصص الحب والاضطرابات الاجتماعية والتحولات الثقافية والسرد متعدد الأصوات. إجمالا إنها لوحة فنية تصور مدينة إسطنبول في الحقبة التاريخية بين عامي (1969- 2012) وهي حقبة راسخة في ذاكرة الكاتب عاشها واقعا بكل أحاسيسه، ويسردها باموق داخل إطار قصصي يكشف أسرار الشارع الإسطنبولي بعيون بطل الرواية «مولود» بائع البوظة المتجول. تتبع الرواية حياة البائع المتجول الفقير «مولود» البسيطة وهو يتجول بين شوارع إسطنبول بائعا للبوظة، وهو شراب شعبي يعود للعصر العثماني يشاع أنه يحوي نسبة قليلة من الكحول رغم إصرار «مولود» أن مشروبه الشعبي حلال شرعا ولا يذهب العقل. ينازع مشروبه العتيق البقاء في ظل التحولات واجتياح المشروبات الكحولية الحديثة الأسواق ما يجعل الناس تنسى تراثها الشعبي المتمثل في مشروب البوظة العريق. كانت مهنة «مولود» كبائع متجول زهيدة الأجر، منهكة ومليئة بالإزعاجات بين مطاردة الكلاب الضالة والعدوانية، واستيلاء اللصوص على بضاعته وأمواله. وأثناء تجوله في الشوارع يدعوه الزبائن من خلال النوافذ لدخول بيوتهم، بعضهم يشتري منه بدافع التعاطف والشفقة وبعض المتعالين يدعونه للسخرية أو بدافع الفضول بعد أن تحولت مهنة «بائع البوظة» إلى تراث مندثر. فقد أصبح «مولود» رمزا لتاريخ إسطنبول المتلاشي. ومنحته مهنته المضنية فرصة دخول بيوت الناس من مختلف شرائح المجتمع وتبادل الأحاديث المطولة مع الناس وتكوين علاقات قصيرة المدى معهم، وجعلت من إسطنبول مدينة نابضة بالحياة، فقد صور أورهان باموق تفاصيل المدينة وما يعتمل داخلها من تحولات وسلوكيات وردود أفعال بعيون بائع بوظة فقير. رواية نجحت في الغوص وسط أسرار المدينة والكشف عن العلاقات الإنسانية المتشابكة والمعقدة من خلال شخصية البائع «مولود» الذي كان ببراءته وسذاجته دخيلا على الجشع والأنانية السائدة في مجتمعه، مجتمع المدينة كعنوان بارز لهيمنة ثقافة الأسواق. قصة مولود استحضار حنين لإسطنبول المتلاشية والراحلة بلا عودة بتراثها وعاداتها وتقاليدها، إنها رسالة حب إلى المدينة بكل مجدها الغابر والفوضوي والباهت وكيف أصبح الفساد والأنانية مظهرا من مظاهر إسطنبول الحديثة. لا يكتب باموق هنا رواية تاريخية ولا يكتب عن الروم والفرس والحشاشين والبرامكة، إنه يخصص أكثر من 600 صفحة لبائع بوظة فقير ويمنحه شرف البطولة ويجعله شاهد عيان على كل التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعرضت لها مدينة إسطنبول في حقبة زمنية عاشها باموق واقعا بحواسه ومشاعره، فهو يتحدث لغة خاصة بالمدينة وينقل علاقات إنسانية مبعثرة من صميم حياته الشخصية، وبلا شك نجح باموق في وصف المدينة والعلاقات الاجتماعية فيها بمهارة عالية اكتسبها من معاشرته للناس ومشاهدته لتفاصيل حياتهم اليومية، لذلك كانت رواية «غرابة في عقلي» صادقة وحقيقية وغير مصطنعة.