ألقى الأديب أحمد عسيري كلمة في يوم تكريمه قال فيها: كتبت قبل عشر سنوات مقالة بعنوان "لا نحب إلاّ الموتى"، أما الآن فيجب أن أضيف: "والأحياء أحياناً". كنت أتساءل قبل هذه الاحتفائية والاحتفالية وبعنف ذاتي وقسوة طاغية: هل تجربتك وحضورك في المشهد الثقافي والإعلامي يستحق كل هذا العناء؟. ما هي إضافتك النوعية المتعاظمة للذائقة وللمرحلة؟. هل كان لديك مشروع يلامس عموميات وتفاصيل الحياة اليومية للبشر الذين يحيطون بك؟. هل تجربتك الكتابية نثراً وشعراً راسخة وممتدة ومبهرة كوثيقة متجاوزة تتلبس تقنيات التعبير الآني ومضادة للسائد والنمطي والمعتاد؟. هل اختطفت هذا التقدير ممن هو أحق منك؟. هل ستسمع همساً خافتاً بين المقاعد والحضور يقول: "هوّ ما ورانا إلاّ أحمد عسيري؟"، دون أن ألمح حمرة الخجل على وجهك؟. هل كنت تستجدي هذه الاستطالات والاستعراضات والمثيرات كاندفاعات تشخيصية بحثاً عن تمظهرات واهمة؟ لقد أيقظت كلُّ هذه الخضّات والجمرات والتساؤلات الحارقة والملتهبة لوعةَ الإحساس الصادم والشعور المستفز في داخلي، والتي كانت تتخلق كالجرح الغائر والخنجر الوحشي، ولكني استغفرت الله من كل هذه الإغواءات والاحتدامات واستحضرت بواطن النيات لمجتمعي النقي والطاهر، وللنفوس التي يعمرها الضوء المطمور في خلايا إنسانيتها المتعافية، وبالذات الأسرة الثقافية المحتشدة بالحياة والوفاء والقيم النبيلة ودفء العلاقة التي تحكمنا، وتأكدت لحظتها أن مجتمعاً بهذا السلوك الراقي هو مجتمع لا يموت، لأنه يصنع المبادئ، والذين يصنعون المبادئ لا يموتون!. أما ظاهرة الحزن المستبد، التي تغشى وتغمر أغلب ما أكتبه وتغافلني كالمطر الحارق وتثقلني كلدغات الثعابين، فالإنسان بطبعه كائن حزين، ويا للروعة إذا كان حزناً إيجابياً، فزمهرير الحزن يكون مدمراً حين يكون حزناً يائساً وتنهيدةً مطفأةً وأنيناً وتوجعاً كاذباً. أما الحزن الذي تطحنه رحى المعاناة ويحز فعله كالأمواس في الوريد ويتناسل كرحيق الطلع وأنفاس الينابيع، فذلك الحزن هو الترياق ومصباح العتمة وخفقة الرجاء. الحزن ليس قميصاً نخلعه عندما يأتي المساء. الحزن فرس جامح يصهل في بئر الأعماق، يعصف بالذات الموجعة فيحيلها إلى عطر مسفوح أو رماد عقيم، وقد اخترق الأولى على ما يبدو. لقد حاولت دفن حالة السأم والشعور بالألم الممض، والانعتاق من كوابيس المخبوء والانتصار للحياة وإنجاب الأمل، فأنا محكوم بالأمل رغم أن حقائبي مليئة بالجراح والهزائم وحمأة الوجع الأنيق. فقد حاولت أن أفر من انكساراتي لأحولها إلى خسائر جميلة ومباهج من النشوى والفرح والندي، ولأطرد بها سود الهموم وفظاعة المحن، فمهما ضحكت سخرتُ هربتُ، فإن قطرة ألم في عمقها توازي بحر سرور في اتساعه! أشكركم جميعاً، فقد بعثتم في غيابات نفسي شقائق الفرح وأخفيتم تجاعيد العمر الشاحب، وأحييتم في داخلي ترانيم الطفولة وعكاز الحلم المؤجل، ولا أعرف هل حان وقت الغياب أم لم يحن!. شكراً لكم يا أهلي وأصدقائي. سوف أعلقكم جميعاً على جدران قلبي، فوق حبال روحي كخيط من الضوء وتميمة من الأوسمة. شكراً لمن حاول ترميم سنوات عمري في هذا المساء الآسر.