لو أنّ الإعلام السياسي الظاهر والباطن عيشني في غربة فقط، لقبلت به وتغرّبت، لكنه يجرني إلى الوراء ويحد من طموحاتي وتطلعاتي. على إثر ذلك بت لا أنمي قدراتي ولا أتقدم معه خطوة إلى الأمام، بل إلى الوراء، طالما أن المحاولات جادّة «لتسييسي» رغماً عن أنفي وأنف كل عربي بات ونام وأصبح لا يتكلم إلا في السياسة. أكره السياسة وأكره القنوات الإخبارية والكتب السياسية والساحات السياسية وكل من يحدثني بالسياسة، حتى الذي لا يفك الحرف ظن نفسه خريج علوم سياسية، ولذا تجدني أنفر منه وأكره كل قناة تمسيني وتصبحني بشريط الأخبار السياسي ولو كانت تعرض مسلسلاً كوميدياً. أي ضحك هذا أو أي بكاء؟ السياسة يا جماعة من ورائها الدمار، وأنا امرأة تؤمن بالبرتقالة لا القنبلة، تؤمن بفاكهة المحبة لا بديناميت السياسة، وأؤمن قبل هذا كله بأنّ همسة محبة هي أقوى من كل مدافع العالم، الأمر الذي جعلني أفر من جبهات السياسة الرامية إلى تفرقتنا وزرع الفتن ودق طبول الحرب. رايتي ضفيرة طفلة أُجدّلها، وحصاني أمل شاب أساعده على تحقيقه، وحضني حمامة سلام، وهذه القذرة لا تتركنا في حالنا، خصوصاً في هذا البلد ها قد أصبحنا في هذا البلد المسالم والجميع يحاول أن يسمم لقمتنا بها، العربي لا يفكر لا يتكلم ولا حتى يسير إلى عمله إلا ونشرة الأخبار تسبقه إليه، فهل كانت سعداً لنا وفرحة؟ لا! فبماذا استفدنا إذاً؟ هل اخترعنا شيئاً؟ هل اتقنا عملنا؟ هل طورنا وجداننا وحسنا الثقافي؟ أم قفزنا في حقول ألغامها فلم نعد نتطور فلسفياً أو عملياً أو بيئياً ولا حتى اقتصادياً؟ ها هو العالم العربي كله خسر ما خسر، فلم لا يتركون سعوديتنا لنا في حالها وأمم المسلمين تعيش فيها؟ لا، فالجميع يريد التسييس والسياسة تغريك حتى عن فطائر أمك وخبزها وملاعب الطفولة البريئة وحدائق الصبار. يظن أحدكم بعد مشاهدته لمشادّة سياسية تلفزيونية أنه أصبح ضليعاً وقد غرف من ينابيع المعرفة، ونسي أنها السوط الذي يحفر على خصورنا أخدوداً تمشي عليه النيران. لقد سئمت يا أحبائي الحروب السياسية والإرهاب، وها هي ذاكرتي مليئة برائحة البارود. أنا التي أتمنى أن استنشق عبير قرنفلة أو نعناعة مع فنجال الشاي الساخن لا الحوارات الساخنة والحروب الأسخن. لا تتهمني أرجوك بأنني «نعنوعة»، ولكني أريد لأطفال اليوم ذاكرة أجمل من ذاكرتي، أريد لهم هودج فرح لا قافلة من الآلام والأحزان العربية المتكررة، أريد لهم مختبراً ومصنعاً ومكتبة ومعملاً وكرسياً في الجامعات، لا كراسي انتظار في باحات السفارات والقنصليات، وها قد علمنا وتعلمنا أن من عادة السياسة أن تشغل الإنسان في ما لا يعنيه، وأن عادتها أن تأكل فقراء الأرض والمحرومين الذين ينقادون وراء شعارات هدامة ومبادئ خاطئة ومن أجلها تنقاد مجاميعهم نحو طاحونة رعب يومي. أوليس إذاً أجدى وأهم وأنفع أن نعلّم جاهلاً أو نؤوي مشرداً أو نشغّل عاطلاً أو نُغني فقيراً، بدلاً من تمييع الوقت وتضييع الأمة في دهاليز السياسة؟ أليس أجمل وأحلى أن نعطي عالمنا من المحبة وبساتين الأحلام وفضاء الأمنيات، بدلاً من قتل ودمّر واغتال وفجّر وعذّب ونكّل وتظاهر واستشهد ومات؟ لذا أعلن رفضي لكل من يحرض على السياسة وزرع الفتن والقتل والحروب، فلقد فهمت كما يفهم الحمار من التكرار، ويا كثر ما تكررت الحروب علينا من يوم ولدتني أمي، إلى درجة تجعلني أثور على أمي، لأنها لم تعلمني أن المواطن هو القاتل والمقتول وأن الحصيلة هي الهزيمة وحدها للأمة بأكملها. قد تكون أمي علمتني لكن «كم تعلّم في المتعلم يصبح ناسياً»، لأن سادة الغرب، الذين كما قيل لنا من ورائهم المؤامرات، ولم نفهم أن هؤلاء السادة لا تصل نيران الحروب والتفرقة إلى أعتاب منازلهم ولم يستنشقوا دخانها، بل إنهم يربحون من إيرادها فيجلسون على أرائكهم وعلينا يتفرجون والفرجة ببلاش، ونحن ندفع الثمن دماً ونجلس على أرصفة العالم والتاريخ بحثاً عمن يمنحنا هوية الإقامة الموقتة فوق الأرض، فدافع عن أرضك وليكن دعاؤك كل يوم لها أن يرد الله الشر والأشرار عنها، لأنك لو قلت لأي من عرفها أجابك: يا سلام إنها السلام. خلف الزاوية أبيننا حب؟ أتحسب هذا الشعور صداقة؟ وهذا الحديث بكل طلاقة؟ أوليس أهم وأحلى وأجدى اللقاء، الوداع، الشجون، الجنون، التراضي، التغاضي وأن نستحم بضوء الحنين... وأن نستجم بكل السنين وألا نسمي هذه العلاقة [email protected]