تحل ذكرى تولي سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان- حفظه الله- في وقت تشهد فيه المملكة تحولات كبرى تعكس عمق الرؤية التي ينطلق منها، والطموح الذي يحرك خطواته. القيادة الحقيقية تُقاس بقدرتها على بناء المستقبل، ورسم مسارات جديدة تتجاوز التحديات، وهذا ما نراه في رؤية 2030 التي قدمت خطة تنموية شاملة ومشروعًا متكاملًا يهدف إلى إحداث نقلة نوعية في الاقتصاد، والمجتمع، والمكانة الدولية للمملكة. في فكر القيادة الحديثة، تُعرَف القيادة التحويلية بأنها القدرة على إلهام الأفراد ودفعهم نحو تحقيق أهداف غير مسبوقة، وهو ما قدّمه ولي العهد من خلال مشاريع استراتيجية أعادت رسم المشهد السعودي. عندما أعلن عن مشروعات كبرى مثل نيوم، كان يؤسس لاقتصاد معرفي يعتمد على الابتكار والتقنية، وعندما أطلق برنامج تطوير الصناعات الوطنية والخدمات اللوجستية، كان يمهد الطريق لتحقيق الاستقلال الاقتصادي وتعزيز القوة الإنتاجية للمملكة. هذه الخطوات تحقق ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ (التوبة: 105)، فالمستقبل لا يُنتظر، بل يُصنع بالعمل الجاد والتخطيط الدقيق. وفي الوقت نفسه، استندت رؤيته إلى مفاهيم القيادة التحويلية، التي وضع أسسها علماء الإدارة الحديثة مثل Bernard Bass، والتي تعتمد على إعادة هيكلة المؤسسات، وإطلاق مشاريع طموحة تعيد رسم شكل الاقتصاد والمجتمع. الرؤية لا تقتصر على رسم صورة للمستقبل، بل تتطلب التزامًا بتحقيقها، وهذا ما عبّر عنه ولي العهد حين قال: «طموحنا أن نبني وطنًا أكثر ازدهارًا، يستطيع كل مواطن فيه تحقيق أحلامه». هذا الفكر يتماهى مع مبدأ القيادة بالرؤية، الذي تحدث عنه الخبراء باعتباره القدرة على توجيه الأمة نحو أهداف استراتيجية واضحة، وتحفيز الجميع للإسهام في تحقيقها. ما يميّز قيادة ولي العهد أنها جمعت بين النهج الإسلامي في الحكم، وأحدث نظريات القيادة الحديثة، مما جعلها نموذجًا متفردًا في بناء الدولة الحديثة دون أن تفقد المملكة هويتها الأصيلة. فالنهج الإسلامي يقوم على مبادئ العدل، والشورى، وتمكين الأفراد، وهي قيم أكدها القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ (النساء: 58). هذا المبدأ انعكس في قرارات ولي العهد، التي جعلت الكفاءة والقدرة معيارًا للتمكين، وحرصه على تحقيق العدالة الاجتماعية، من خلال إصلاحات اقتصادية وبرامج تستهدف تحسين جودة الحياة. تمكين الشباب، الذي يعدّ إحدى الركائز الأساسية لهذه الرؤية، يعكس فكر القيادة الموزعة، حيث يُمنح الأفراد الفرصة للمشاركة الفاعلة في عملية التغيير. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «نعم المال الصالح للرجل الصالح» (رواه أحمد وصححه الألباني)، وهذا ما نجده في النهج الاقتصادي الذي تبنّاه ولي العهد، حيث فتح المجال أمام رواد الأعمال، وأطلق برامج تستثمر في العقول والمهارات، إدراكًا منه أن الثروة الحقيقية تكمن في الإنسان قبل الموارد. في فلسفة القيادة، هناك ما يُعرف بالقيادة التحفيزية، والتي تقوم على بناء الثقة وتحفيز الطاقات الكامنة. هذا الأسلوب يظهر جليًا في الخطوات التي اتخذها ولي العهد لتعزيز ثقة المواطن السعودي بقدراته، ومنحه الأدوات اللازمة لتحقيق النجاح. كثيرون كانوا يرون أن بعض القطاعات غير قابلة للنمو داخليًا، لكنه أثبت العكس من خلال استثمارات نوعية في السياحة والترفيه والتكنولوجيا، مما جعل المملكة مركز جذب عالمي. ولا يقتصر تأثير هذه القيادة على الجوانب الاقتصادية والإدارية فقط، بل امتد إلى تعزيز روح الهوية الوطنية والانتماء، حيث أعاد ولي العهد إحياء التراث السعودي بأسلوب معاصر، عبر مشروعات مثل بوابة الدرعية، وجدة التاريخية، ومهرجانات ثقافية تعبر عن إرث المملكة العريق. هذا التوجه يعكس مفهوم القيادة بالهوية، وهو مبدأ إداري حديث يؤكد أن بناء الأمم لا يتم فقط من خلال التطوير المادي، بل أيضًا عبر ترسيخ القيم الوطنية والثقافية في نفوس الأفراد. التحولات الكبرى التي نشهدها اليوم هي امتداد لمسيرة من العزم والتخطيط، وتعكس ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير» (رواه مسلم). القوة لا تعني الهيمنة، بل تعني القدرة على اتخاذ القرارات الجريئة، والاستثمار في الموارد المتاحة، وتحويل التحديات إلى فرص، وهو ما تجلّى في إصلاحات اقتصادية واجتماعية باتت نموذجًا يُحتذى. ذكرى تولي سمو ولي العهد ليست مجرد مناسبة، بل تأكيد على أن السعودية اليوم تعيش مرحلة تحول كبرى، حيث تصنع مستقبلها بثقة وتنافس على أعلى المستويات. الغد يحمل مزيدًا من القوة والريادة، بفضل قيادة تدرك أن التحول ضرورة لصناعة المجد. وكما قال الفيلسوف لاوتزه: القائد العظيم هو من يجعل الناس يقولون في النهاية: لقد فعلناها بأنفسنا. واليوم، السعوديون يقولونها بكل فخر: لقد فعلناها، لأننا آمنا بقيادة لا تعرف المستحيل.