منذ عقود اتخذت إسرائيل نهجًا ثابتًا في التعامل مع الاتفاقيات والمفاوضات: توقيعها، ثم تعديل شروطها لاحقًا، ثم إلقاء اللوم على الطرف الآخر عند رفضه الامتثال للتعديلات الجديدة. هذه الاستراتيجية ليست استثناءً، بل قاعدة متكررة في تاريخ المفاوضات الإسرائيلية، حيث تُستخدم المفاوضات أداةً لتكريس الأمر الواقع، وليس للوصول إلى حلول عادلة ودائمة. ولطالما كان المشروع الصهيوني قائمًا على فكرة الاستعمار الاستيطاني، حيث لم تقتصر أهداف إسرائيل على السيطرة العسكرية فقط، بل امتدت إلى الاستيلاء الفعلي على الأرض وتفريغها من سكانها الأصليين. ورغم انسحاب إسرائيل رسميًا من قطاع غزة عام 2005، فإن سياساتها تجاه القطاع لم تكن سوى مرحلة جديدة من الاستعمار بأدوات مختلفة. فبدلًا من الاحتلال المباشر، فرضت إسرائيل حصارًا خانقًا، وتوغلت في عمليات القصف والاغتيال والتجويع، مكرسةً ما يُعرف ب»الإبادة الجماعية التدريجية». التفاوض لإعادة التفاوض وشهدت اتفاقيات أوسلو عام 1993، التي كان من المفترض أن تضع أساسًا لحل الدولتين، أول مظاهر هذا النهج بشكل واضح. فعلى الرغم من التزاماتها، وسّعت إسرائيل المستوطنات غير الشرعية، وفرضت قيودًا قوضت جوهر الاتفاق. لم يكن ذلك حدثًا عابرًا، بل ممارسة مستمرة؛ إذ دأبت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على إعادة التفاوض على القضايا المتفق عليها مسبقًا، وعند رفض الفلسطينيين التنازل، وُصفوا بأنهم «معرقلون للسلام». والأمر نفسه تكرر مع «خارطة الطريق» التي طرحتها إدارة جورج دبليو بوش عام 2003، والتي تبنتها الأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا. ورغم قبول السلطة الفلسطينية بها، فرضت إسرائيل شروطًا جديدة، من بينها الاعتراف بها كدولة يهودية، وهو مطلب لم يكن مطروحًا ضمن الاتفاق الأصلي. وعندما رفض الفلسطينيون هذه الإضافات، أُلقي عليهم اللوم في عرقلة عملية السلام. وفي سياق مماثل، بعد اتفاق وقف إطلاق النار الحالي، سعت إسرائيل إلى تغييره تدريجيًا عبر سلسلة من الانتهاكات، بدءًا من منع دخول المساعدات الإنسانية، وصولًا إلى تكثيف الهجمات العسكرية، بما في ذلك استهداف فرق الإغاثة والصحفيين. إستراتيجية قديمة باعتراف إسرائيلي ولم يكن هذا النهج الإسرائيلي سرًا، بل تم الاعتراف به علنًا. ففي عام 1992، صرّح رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق شامير بأنه كان يهدف إلى تعطيل المفاوضات، مع العمل بالتوازي على توسيع المستوطنات لتغيير الحقائق على الأرض. هذه السياسة استمرت عبر الحكومات المتعاقبة، حيث يتم استخدام المفاوضات كأداة لتعزيز السيطرة الإسرائيلية، وليس لتحقيق تسوية عادلة. الدور الأمريكي: انحياز لا وساطة وأحد العوامل الرئيسية التي مكّنت إسرائيل من انتهاك الاتفاقيات مرارًا هو الدعم الأمريكي غير المشروط. فمن خلال منح إسرائيل الغطاء الدبلوماسي، ساعدت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على إطالة أمد الصراع، عبر الضغط على الفلسطينيين للقبول بشروط إسرائيلية متغيرة باستمرار، بدلًا من محاسبة إسرائيل على انتهاكها للاتفاقيات. وهذا الانحياز الأمريكي تجلّى بوضوح في موقف الرئيس السابق دونالد ترمب، الذي أعلن دعمه الكامل للقرارات الإسرائيلية، حتى وإن شملت جرائم حرب وانتهاكات جسيمة للقانون الدولي. وبينما قدّم نفسه وسيطًا يسعى إلى وقف إطلاق النار في أوكرانيا، فإنه في غزة تبنّى موقفًا يُشجّع على استمرار الحرب والدمار. نتائج بلا مساءلة وإن قدرة إسرائيل على إعادة التفاوض على الاتفاقيات وإلقاء اللوم على الطرف الآخر تعكس خللًا جوهريًا في النظام الدبلوماسي الدولي. فمن دون مساءلة حقيقية، أصبحت الاتفاقيات مجرد أوراق تفاوضية بلا قيمة، وأضحى الالتفاف الإسرائيلي على الالتزامات السابقة سياسة ممنهجة تُعيد إنتاج الصراع بدلًا من حله. وما لم يتغير هذا الواقع، فستبقى المفاوضات مع إسرائيل رهينة استراتيجية «التفاوض لإعادة التفاوض»، حيث يتم توظيف العملية الدبلوماسية كغطاء لاستمرار الاحتلال، وليس كطريق نحو سلام حقيقي. أحلام إسرائيلية ومع استمرار العدوان الإسرائيلي على غزة، في الوقت الحالي بدأت أصوات داخل إسرائيل تتحدث علنًا عن خطط لإعادة الاستيطان في القطاع، خصوصاً بعد تدمير جزء كبير من بنيته التحتية وتهجير سكانه. حيث اجتمع قادة اليمين الإسرائيلي مع مستثمرين ورجال أعمال، وطرحوا فكرة بناء مستوطنات إسرائيلية جديدة في غزة، مستغلين حالة الفوضى والمعاناة الإنسانية التي يعيشها الفلسطينيون. حتى إن بعض أعضاء الكنيست وصفوا غزة بأنها «فرصة عقارية نادرة»، في تجاهل تام للمأساة التي يتعرض لها سكانها. التطهير العرقي وعلى مدار عقود، لم يكن التطهير العرقي الذي تمارسه إسرائيل مرتبطًا بمستوى المقاومة الفلسطينية، بل هو جزء من سياسة ممنهجة تهدف إلى تقليص الوجود الفلسطيني أينما كان. سواء في الضفة الغربية أو النقب أو حتى داخل حدود 1948، كانت إسرائيل تعمل باستمرار على محو الوجود الفلسطيني عبر الاستيطان والتهجير القسري. واليوم، تستخدم الحرب على غزة كذريعة جديدة لتمرير مشاريع استيطانية قد تعيد سيناريو نكبة 1948. الولاياتالمتحدة ولم يكن الموقف الأمريكي بعيدًا عن هذه المخططات، حيث أبدى مسؤولون أمريكيون، بمن فيهم جاريد كوشنر، اهتمامًا بإعادة إعمار غزة بما يخدم الأجندة الإسرائيلية. وهذا ليس غريبًا، فكما دعمت الولاياتالمتحدة الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية، فهي لن تتردد في دعمه داخل غزة، خصوصاً في ظل إدارة لا تخفي تحالفها المطلق مع إسرائيل. الخطر لا يتوقف ومن يعتقد أن الأطماع الإسرائيلية ستتوقف عند حدود غزة فهو واهم. فإسرائيل، منذ تأسيسها، لم تكفّ عن السعي للتوسع، وما يحدث في الضفة الغربية والقدس المحتلة وسوريا ولبنان دليل على ذلك. فالاحتلال الإسرائيلي لا يرى حدودًا ثابتة، بل يعتمد على مزيج من القوة العسكرية والدعم الغربي والصمت الدولي لتحقيق أهدافه التوسعية. والقبول بمشاريع إعادة الاستيطان في غزة يعني تكريس واقع جديد قد يُصعب تغييره مستقبلاً. الحل لا يكون بالبحث عن «تسويات مؤقتة»، بل بمواجهة الاستعمار الاستيطاني في جوهره، وإفشال مخططاته قبل أن تتحول إلى أمر واقع. أبرز ملامح الإستراتيجية الإسرائيلية في تعطيل المفاوضات: 1. إبرام الاتفاقات ثم تعديلها: توقيع اتفاقيات، ثم فرض شروط جديدة لاحقًا، مما يؤدي إلى إفراغها من مضمونها. 2. إلقاء اللوم على الطرف الآخر: اتهام الفلسطينيين بالعرقلة عند رفضهم القبول بالتعديلات الإسرائيلية على الاتفاقات. 3. خلق حقائق جديدة على الأرض: توسيع المستوطنات وفرض قيود تفرغ الاتفاقات من محتواها، كما اعترف إسحاق شامير علنًا. 4. استغلال المفاوضات كأداة لإدارة الصراع: ليس لتحقيق حلول دائمة، بل لكسب الوقت وتعزيز السيطرة الإسرائيلية. 5. دعم أمريكي غير مشروط: حماية إسرائيل من العواقب، مما يسمح لها بإعادة التفاوض باستمرار دون رادع دولي. 6. تصعيد ميداني للضغط على الفلسطينيين: انتهاكات مثل منع المساعدات وشن هجمات لإجبار المقاومة على تقديم تنازلات. 7. إضعاف دور الوسطاء الدوليين: بإفشال الاتفاقات التي يتم التوصل إليها، مما يفقد أي عملية تفاوضية مصداقيتها.