الفلسطينيون شعب أعزل أبتلي بتسلط القوى العظمى عليه لتسليم وطنه إلى شذاذ تركوا أوطانهم التي عاش فيها أجدادهم؛ ليأخذوا بقوة تلك الدول المهيمنة ذلك الحين وطنًا ليس لهم، ويعملوا على إخراج أهله منه.. هذه هي قضيتهم باختصار، عادلة واضحة.. لا يصعب على أحد الإقناع أو الاقتناع بها. والذين مازالوا باقين من هذا الشعب في فلسطين لهم فضل عظيم على قضيتهم وشعبهم وعلى المسلمين عامة، فهم المرابطون حقًا.. الصابرون على مجاورة العدو الغاصب ومكاثرته.. والمحتملون لأذاه.. الصامدون في مواجهته.. المعرضون عن دعوات المغادرة، وما تحمله من إغراءات بعيش آمن كريم في بلاد ناعمة مستقرة، لو استجابوا لها لأتتهم موافقات اللجوء أو المواطنة من كثير من الدول الأوروبية والأمريكية؛ لكنهم آثروا مصابرة المستوطنين والصبر على استفزازهم ليبقوا هم مستند الحق ووثيقته العظمى. وهم عُمَّار المسجد الأقصى القائمون فيه بالصلاة والدعاء والاعتكاف، ولولا وجودهم لكان خاليًا من ذكر الله مباحًا لرجس الصهاينة ونجسهم.. فلهم أجر المرابطين والمجاهدين، وهم حقيقون بالدعاء من كل مسلم ومسلمة أن يثبتهم ربهم ويقويهم ويرعاهم، ويبلغهم أملهم وأمل المسلمين جميعًا بأخذ حقهم وجلاء عدوهم، ويجعل خاتمة صبرهم نصرًا مؤزرًا يملأ مشارق الأرض ومغاربها. ومن جملة حقوقهم علينا توجيه النصح إليهم فإن الدين النصيحة، كما قال صلى الله عليه وسلم، والنصيحة من شأنها الصدق والعدل، وأن تصدر من قلب محب مشفق وعقل لبيب ولسان رزين، وهذا ما أحرص على توخيه في مخاطبة إخواننا المرابطين. فأول ما أبدأ به أن أقول: أقيموا حق رباطكم، فإنه عبادة شَرَّفكم الله بها دون غيركم من المسلمين، فعليكم استحضار نيته في يقضتكم ومنامكم، فلا يُعلم على وجه الأرض عبادة أفضل من هذه العبادة إذا استحضر العبد نيتها. ثم إن عليكم التخلق بأخلاق الرباط من تعظيم توحيد الله في ربوبيته وإفراده بكل العبادات القلبية والبدنية واللسانية سبحانه وتعالى، وتُحيُون دينه في أنفسكم وأهليكم ومجتمعكم كما أُنزل لا كما ابْتُدِع، فإن هذا شرط وعد الله بالنصر، ولا تخفى عليكم الآية الكريمة في ذلك ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذينَ مِن قَبلِهِم﴾ الآية. ومن أخلاق المرابطين محبة المسلمين وكف أذى الألسنة عنهم، فالمرابط مشغول بما خوَّله الله من عبء الرباط، من إصلاح النفس والحال والمآل، والعمل لقوله تعالى: ﴿وَلَقَد كَتَبنا فِي الزَّبورِ مِن بَعدِ الذِّكرِ أَنَّ الأَرضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحونَ﴾ [الأنبياء: 105]. ومن صلاح المرابط أنه لا يبغض أحدًا في أمر الدنيا، ولا يسيء الظن في إخوانه أو يحسدهم على ما آتاهم الله من فضله، أو يستطيل بلسانه عليهم، أو يسعى بالوقيعة بينهم، أو يذم بلادهم وحكامهم وأخلاقهم، فكل ذلك ليس من أخلاق المرابطين؛ بل هو ضار برباطهم وقضيتهم ومما يَصُد القلوب عنهم، فجميع الناس وإن أحبوا فلسطين وقدسها فلن يُحبون مِن أهلها مَن كان يحسدهم خيرهم ويطيل لسانه عليهم، والأغلب أن هذا الناقم المستطيل بلسانه لا يمثل الفلسطينيين، لكنه وإن لم يكن كذلك سيجلب نقمة الناس على الفلسطينيين، إذ النفوس السوية مجبولة على حُب أوطانها وتاريخها وقاداتها، فمن وقع فيهم وقعوا فيه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قالوا وكيف يلعن الرجل والديه، قال يسب أبا الرجل فيسب أباه ويلعن أبا الرجل فيلعن أمه)، فلا ينبغي للفلسطينيين أن يسبوا أنفسهم وأرضهم بتعريضهما للسب حين يسبون الآخرين وديارهم. وأخص هنا دول الخليج وشعوبها وقادتها، لا سيما بلادي المملكة العربية السعودية التي لن تجد كثيرًا في تاريخ قضية فلسطين من وقف معها مثل شعب السعودية وقادتها، ومع ذلك لا يبالي كثير من النخب الذين نحسب أنهم لا يمثلون صميم الشعب الفلسطيني، لكنهم مع بالغ الأسى هم الصوت المرتفع من بينه. أقول: إن هؤلاء لا يبالون في إطلاق ألسنتهم بالسوء في حق الشعب السعودي ومذهبه العقدي وقيادته، وهذا أدى بالفعل إلى ردة فعل في غاية السوء حقًا، لكنها من جهة أُخرى طبيعية، ومن جهة ثالثة هي مضرة بالقضية الفلسطينية من جذورها، حيث بات ذلك يُضعف الشعور بمكانة القضية الفلسطينية من المنطلق الديني والعروبي، تلك المكانة التي رضعناها صغارًا من صدور أمهاتنا، وكانت إحدى المُسَلَّمات التي تربينا عليها، ونسعى أن ينشأ عليها شبابنا، لكن شبابَنا اليوم ليسوا مثلنا بالأمس حين كان يُشَكِّلنا البيت والمدرسة، أما هم فيسهم في تشكيل مشاعرهم بشكل أكبر الإعلام العام، والإعلام الاجتماعي، وحينما لا يرى شبابنا من الفلسطينيين سوى سوء القول فإن هذا سيبني حاجزًا متينًا بينه وبين الفلسطينيين وقضيتهم، ومهما حاولنا إقناعه بأن هؤلاء لا يمثلون الشعب الفلسطيني، فإنه لن يقتنع مطلقًا وهو لا يسمع إلا هذا الصوت، ويسمعه من أناس ليسوا أغمارًا في تويتر؛ بل أساتذة جامعيين وسياسيين وخطباء مساجد ومهندسين وأطباء. المهم أن تخلق الفلسطيني بأخلاق الرباط سوف يحيل كل هذا التوتر إلى مودة ووئام، إذ لن يكون الفلسطيني في عيون جيرانه من العرب هو ذلك الناقم على الشعوب العربية، الباحث والمتسوق إلى أخطائها، والمصدق لكل ما يقال فيها من سوء ولو كان قائله أكذب الكاذبين؛ بل سيكون التقيَّ الورع الخلوق المحب لأرضه الصامد فيها.. الودود المتسامح مع إخوانه الأقربين. ومن أخلاق المرابطين أيضا احتساب مرابطتهم لوجه الله تعالى، ومن لوازم ذلك عدم المِنَّة بهذه المرابطة على أحد، لأنها مِنَّة ونعمة عليهم من الله أن أنشأهم في أرض الرباط ينعمون بما فيه من أجر؛ ومن يُقِرَّ بنعمة الله عليه حقًا إنما يقول إذا دافع العدوَ وصَابَرَه: ﴿ رَبَّنا أَفرِغ عَلَينا صَبرًا وَثَبِّت أَقدامَنا وَانصُرنا عَلَى القَومِ الكافِرينَ﴾، ولا يتخذ هذا الموقف فرصةً للندب والعويل وتحميل الأمة مسؤولية ما هو فيه من مُصاب، لا سيما السعودية، وكأنها هي من احتل فلسطين وجلب اليهود إليها، أو كأن السعوديين هم الشعب الذي كان هناك أثناء الاحتلال الصهيوني، وكأنهم هم من تركوا مدنهم وقراهم واعتصموا في المخيمات خوفًا من المذابح التي أقامها الصهاينة! المرابط لا يُعلق أخطاء شعبه التاريخية أو أخطاءه القيادات الممثلة لشعبه على مشاجب الآخرين، وإنما يتخذ أحد طريقين، إما أن يتحمل مسؤوليته التاريخية والواقعية كاملة وينطلق من هنالك، وإما أن يُغلِق كشكول التاريخ وينشغل بصناعة الواقع، وبهذين الطريقين سيبدو للجميع شامخًا مثاليًا غير بكاءٍ ولا نَوَّاح، هنا سيستشرف الجميع للوقوف معه، وسيندم كل صاحب تقصير في حقه على تفريطه في مساعدته. إن هذا الصمود العظيم من الفلسطينيين، لا سيما أهل بيت المقدس في مواجهة العدوان الصهيوني يستوجب من جميع العرب خاصة، ومن المسلمين عامة الوقوف معه وتأييده بكل ما يستطيعون، لكن ذلك لا يعني أن مقاومتهم تعطيهم الحق في ذم العرب وتحميلهم مسؤولية ما يحدث لهم! وذلك لأن الرباط في سبيل الله يملي عليهم طهارة القلب وعفاف اللسان والبعد عن كل ما فيه مِنَّة برباطهم وجهادهم، كما أنهم ليسو في المقام الذي يتيح لهم محاكمة الآخرين؛ بل واجبهم تأليف إخوانهم واستقطابهم وليس استعداءهم. ولأن هذه الاتهامات هي الباطل وتركها هو السياسة وما تمليه الحكمة والمصلحة، ثُمَّ لأن غالب المتولين للخطاب الإعلامي الظاهر من الفلسطينيين ليسو محايدين، وإنما خصوم حاقدون نسمع ونقرأ منهم من السم الزعاف في حقنا مالا نسمعه من اليهود والنصارى، ولا يساويهم في شراستهم الإعلامية سوى الصفويين الذين هم عندنا شر من اليهود والنصارى، وإن كُنَّا نتفهم خُبث الصفويين فهم أعداء في العقيدة والمشروع؛ لكننا لا نتفهم كيد الفلسطينيين لنا وهم إخوتنا في الدين واللسان والجوار والجنس. والذي أظنه أحد أقوى الأسباب في حفر هذا الخندق الواسع بين الشعب الفلسطيني وعمقه السعودي والخليجي هو أن القضية الفلسطينية تولى قيادتها سياسيًا وفكريًا وإعلاميًا بادئ الأمر أشتات من اليسار الماركسيو القومي والناصري، وهؤلاء كلهم لهم أحقاد ضد المملكة العربية السعودية خاصة لمواقفها منذ نشأتها من جميع آيديولوجيات اليسار فأفرغ هؤلاء جميع أحقادهم في الوعي واللا وعي الفلسطيني، وهذا موروث يجب على الفلسطينيين إدراكه ثم التخلص منه، كما يجب عليهم إدراك أن هذا اليسار بجميع صوره من أقوى الأسباب في كل ما أصاب القضية من انهيارات ليس للخليج ولا السعودية دور فيها، وإنما اتخذت تلك القُوى الفاشلة السعودية شماعة تعلق عليها فشلها لتظهر أمام شعبها بيضاء نقية. ثم مع بداية القرن الهجري انتشرت الدعوة الدينية، وكثر الرجوع إلى الله وعَمَّ التدين بين الفلسطينيين، وكان عاملاً لنجاح حركة إسلامية في استقطاب الجماهير الفلسطينية، لكن المؤسف أن هذه الحركة توافقت بشكل ليس غريبًا على العارفين بالحركات الإسلامية المعاصرة مع الفكر اليساري العلماني في استبطان المشاعر المؤسفة ضد العمق السعودي، وفشلت في أول اختبار حقيقي لها حين وقفت مع حزب البعث العراقي ضد دول الخليج بالرغم من التباعد العقدي بين الطرفين، وقرب حماس المفترض دينيًا من السعودية، لكن الأثر اليساري على الحركات الإسلامية غلب في هذه القضية وكشف حقيقة حماس لدول الخليج، وأنها لا يمكن أن تكون الخيار الأمثل لتمثيل القضية الفلسطينية. كذلك التوجهات الإسلامية أستثني السلفية في الداخل الفلسطيني ليست أقل يسارية عن حماس في تأثرها باستيطان بغض دول الخليج وتربيتها نشئها على ذلك، حتى إن منهم من يتحدث عن آل سعود والسعودية في محاضراته أكثر مما يتحدث عن إخلاص الدين لله، وربما لا تجد في محاضراته أي حديث عن التوحيد وأحكامه، وتجد فيه حديثًا عن السعودية وحكامها وأهلها، وكأن تربية النشء على بغضنا أحد شروط الفتح المبين. إن المرابط الحق مشغول عن عداوة المسلمين وبغضائهم، ويُجِل نفسه أن يكون أداة بيد أطراف صراع عربي -عربي أو عربي عالمي، فما هو فيه من هم رباطه أجل وأسمى وأكرم. إنني آسى كثيرًا حين أرى وسمًا في مواقع التواصل يقول: فلسطين ليست قضيتي، لكن لو اعتنَى أهل بيت المقدس بتربية نشئهم تربية الرباط لانقطعت كل ردود الأفعال الانفعالية، وحل بدلا عنها الحب والتأييد والنصر.