كانت الابنة الصغيرة تستمع لأغنية «أما براوة» للفنان حسين الجسمي، والأغنية في الأصل للفنانة نجاة الصغيرة. كان أبوها يركب في المقدمة، والأم هي التي تقود السيارة، رحلة طويلة في صورة جمالية تُعبر عن حقيقة إنسان في هذا الوطن. تأمل الأب كل شيء في ابنته البريئة، نظراتها ولعبها، وحركاتها وكلماتها، فأرجعت المخيلة الأب القهقرى إلى قبل أكثر من ثلاثة عقود، فبرزت أمامه صور وذكريات عنيفة جداً. كانت عيناه تفيضان بدموع الحسرة والألم من تلك الأيام الشديدة، المحفورة في الذاكرة، عندما هرع إلى كل آلات الطرب واللهو من تلفزيونات وغيره بالتحطيم والتكسير، فأصبحت تلك الأجهزة كأن لم تكن، بسبب الكراهية التي ترسخت في ذلك الأب، دون وعي لتلك الأجهزة. كانت تلك التصرفات والأفعال، مستمدة من إحاطة فكر ديني، كان منتشراً ومعززاً بقوة، ولما يكاد المرء يفلتُ منه، إلا بعد أن يُعمل ذلك الفكر تأثيره ونتائجه التي رأينا، ولا نزال نرى منها الكثير، من أفعال التشدد والتضييق في كل شيء، فكانت الرقابة في كل شيء، حتى نسمات الإنسان كانت مراقبة رقابة صارمة. هذا شعور أحسسناه وشعرنا به ورأيناه ولمسناه، فهو ليس ضرباً من ضروب الخيال، هذا توصيف حقيقي لما كان يجري في واقعنا. عاد الأب لابنته بابتسامة كلها تفاؤل وأمل قائلاً: يا بُنيتي نحن من جيل كان مفروضاً عليه التشدد والرقابة الصارمة، ولو كنتِ في تلك الأيام لمنعناك سماع الأغاني وألزمناك بالغطاء الكامل لكل جسدك وشعرك ووجهك،.فأطلقت الأبنة الصغيرة ضحكات بريئة، ظانةً أنني أُمارس لعبة المقالب، فقلت لها أنا أتكلم الصدق وأسوق تاريخاً حقيقياً لايزال محفوراً في أجسادنا،وعقولنا وذاكرتنا، ولايمكن محوه من الذاكرة ومخيلة التصورات والتأملات، فجاءتني فكرة كتابة مقال يتعلق بتلك الواقعة، فاخترت مع العنوان نصاً لحديث نبوي شريف قد أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما ونصه «إن هذا الدين يسر ولن يُشاد الدين إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة». «لن يُشاد الدينُ» يشتمل على فعل مضارع مبني للمجهول، والدينُ هو نائب فاعل، وهذا من عظيم اللغة العربية، حيث إن من فوائد وحسنات البناء للمجهول هو أن يجعل الأمر عاماً، ومطلقاً وشاملاً، وليس مقيداً أو مخصصاً، وهذا ما يُقرره أئمة النحو عندما يقولون «عدم تخصيص الفاعل»،وذلك حتى يصل العقل الإنساني للمراد والمعنى المقصود، من سياق العبارات التي جاء ذلك الفعل المبني للمجهول في تركيبها اللغوي، فيكون المعنى المراد من ذلك التركيب، أن كل أحد لن يستطيع أن يُشادّ الدينُ أو يَشادّ الدينَ، فقد روي هذا الفعل بضم الياء المعجمة وفتحها، وكلاهما صحيح وثابت. وكذلك فإن الفاعل قد ورد ذكره وقد ورد حذفه وبناء الفعل للمجهول، و كلتا الروايتين صحيحتان، كما ذكر ذلك ابن حجر في فتح الباري، بأنهما قد وردتا في رواية من روى صحيح البخاري. ومرادي من هذه التقدمة النحوية، أن أُبين أن كل علم، وكذلك كل متعلم، بحاجة إلى فهم هذه اللغة العربية، التي يمارسها ويستمع إليها طيلة حياته، ويقرأ ويكتب بها ويفكر من خلالها. وأن الفهم الحقيقي الذي يمكن أن يوصل هذا الإنسان المتعلم، إلى حقيقة ما يقرأ أو يستمع إليه، مما يُلقى من كلمات أو خطب، أو ما تقع عليه يداه من كتب أو مذكرات، أو كراسات أو ملزمات علمية، هو أن يكون على قدر واسع من الفهم والاطلاع على لغته وقواعدها، من نحو وصرف وعلى مبادئها البلاغية، والسمات الأدبية التي تتضمنها تلك اللغة، حتى لا يقع في مسارات التضييق والتشدد، عندما يُريد أن يقرأ النصوص التشريعية، لكي لا يخلق حالة مجتمعية، تبدو ظاهرة التشدد والتمسك بالدين، بيد أنها متضخمة الأمراض من حيث الباطن. أما الحديث المتقدم وموضوع مشادة الدين ومغالبته، فهو موضوع جدير بإعادة النظر والتأمل في جميع زواياه ومعانيه، وما يتضمنه من إشارات ورموز تعني الشيء الكثير، لمن استطاع أن يظفر بتلك الالتقاطات المشرقة، التي تفكك معاني تلك الآثار ومنها هذا الحديث، فمنذ عدة عقود عند سماعي لهذا الحديث كان يتبادر إلى ذهني وعقلي الأسئلة التالية لماذا يُشاد الدينُ؟ وكيف تكون مشادة هذا الدين؟ و ما معنى أن يكون هذا الدين غالباً ؟ وماهي مغالبة الدين في الأصل؟ و لماذا تم تصدير هذا الحديث بأن الدين يسر؟ وما علاقة مشادة هذا الدين باليسر؟ وما هو اليسر المقصود في هذا السياق؟ تلك أسئلة كانت تدور في ذهني منذ فترات طويلة، وتعرض لي تلك الأسئلة كلما جاء حدث يتعلق بمفاهيم الدين، ومسألة التعلق بالموروث القديم ومسائل التشدد في المسائل والأحكام الفقهية والعقدية، فكنتُ أبقى في تلك الحالة ساكناً متأملاً، وممعناً في التوغل في فقه تلك الأسئلة، محاولاً إيجاد إجابات علها تكون مرويةً لعطش ذلك العقل المُرْهق، لتلك النفس والروح الباحثة عن الاطمئنان والاستقرار، فوجدتُ أن أذكر ما قاله الأقدمون من علمائنا الأفاضل، عن بعض معاني ذلك الحديث، ثم أُبدي ما لدي من وقفات ومعان قد استفدتها من عرك السنين، وقراءة الكتب الصفراء، التي أسست لنا كل شيء في معارفنا وعلومنا، التي استحصلناها خلال تلك العقود. فقد ذكر ابن رجب أن «النهي عن التشديد في الدين هو بأن يحمِّل الإنسان نفسه من العبادة ما لا يحتمله إلا بكلفة شديدة، وهذا هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم» لن يشاد الدين أحد إلا غلبه «يعني أن الدين لا يؤخذ بالمغالبة، فمن شاد الدين غلبه وقطعه»، أي أن أمور هذا الدين لا تُؤخذ بشكل يفوق طاقة الإنسان من حيث قدرته وإرادته، ومن حيث إمكانياته التي ملكها إياه خالق السماء, وذلك أن هناك فهماً معوجاً لهذا الحديث، في معنى المشادة لهذا الدين، وهي أن المقصود منه فقط عدم إلزام الإنسان نفسه بقيام الليل كاملاً، بالصلاة أو الصوم كل يوم، كما يسميه الفقهاء صوم الدهر، أو عدم الإفراط بالتطوع حتى تفوت الفرائض، فلا شك أنه فهم داخل في جزء من أجزاء معنى مشادة الدين، بيد أن قصر مفاهيم التشدد ومغالبة الدين على تينك المفهومين وغيرهما، مما يُعد جزءاً بسيطاً بل هو جزء غير مؤثر في مقصد الشارع، عندما حذر من ممارسة مشادة الدين ومغالبته، و قد قاد هذا التأويل إلى التشدد والتضييق، في إسقاط الأحكام الفقهية على التصرفات العملية للمكلفين، وذلك أن عبارة «لن يُشاد الدين» تحتمل وتتضمن معانيَ كثيرة جداً، بل إنها تعبير مقصود لذاته عبر عنه الشارع، كي يؤسس لمفاهيم كثيرة تجعل هذا الدين يسيرا وسهلا وبسيطا، وليس عبئاً ثقيلاً على المريدين والمؤمنين به، وبقواعده ومبادئه ومقاصده العليا. أراد الشارع من مفهوم «يُشاد الدين» ألَّا يوقع الإنسان نفسه في حرج على وجه العموم المطلق، ولا يكون الإنسان في موقف المتخلي عن الدين إذا ما نزلت به نازلة من نوازل الزمان المؤثرة في حياته، ويكون حكمها منتجاً لآثارها إذا ما تم إنزال نصوص التشريع عليه دون مراعاةٍ لقاعدة «الدين يسر» وقاعدة «الإعراض عن مشادة الدين». فلا يكون هذا الإنسان في مصادمة حقيقية مع أصول وتشريعات ومقاصد هذا الدين، الذي أنزله الخالق المبدع لهذا الإنسان، كي يكون مكرماً وفي مكان سامٍ كي تسمو نفسه وروحه وعقله، بإبداعات هذا الكون فيكون منتجاً فيه. وتلك المصادمة تكون عن طريق إلصاق تهمة أن هذا الدين بقصوره، جعل هذا الإنسان الذي نزلت به نازلة حقيقية دون أية حلول عملية. لذا فإن المعنى الذي توصلت إليه في معنى حديث «الدين يسر ولن يُشاد الدين أحد إلا غلبه»، أن الأمور الدينية متيسرة وسهلة للمخلوقين، وليس فيها أي شيء ينحو منحى الصعوبة والشدة، فإذا ما جاء أمر فيه شدة وعسر وتضييق على العبد في مسار حياته، فإن هذا الإنسان المؤمن بهذا الدين، هو في فسحة من أمره، أن يعمل ما يتسق ويتوافق مع مسار حياته ومن حوله، بحيث لا يكون شاذاً وغريب الأطوار. وهذا ينطبق على الفكر المجتمعي والمكون لذلك الفكر مثل الجهات الحكومية، فإن لها أن تتخذ مسارات التيسير في مجالات وشئون التشريعات، التي تنظم حركة المجتمعات، وتؤسس تلك التشريعات على أساس أن الدين يسر، وأن التضييق والحرج منفي في الشريعة، وأن قاعدة المشقة تجلب التيسير هي الأساس عند النظر في كل شؤون المجتمع، وبهذا تنتظم أدلة الشريعة ومبادئها ومقاصدها.