يُطرح مفهوم الأنسنة في سياقات متعددة منذ ظهور هذا المصطلح وما تبعه من معانٍ ودلالات فلسفية، كانت البدايات في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي بأوروبا أو في القرن العاشر الميلادي ببلاد العرب في عهد الدولة البويهية، حسب ما توصل إليه الباحث الدكتور محمد أركون (انظر: الأنسنة والإسلام، مدخل تاريخي ونقدي، ترجمة محمود عزب، دار الطليعة، الطبعة الأولى 2010، ص 36)، ولكن الاستعمال الأكثر جدلاً في ساحتنا الإسلامية، والمستجلب معه معارك فكرية لا تزال فتائلها تشتعل حتى اليوم، وضع الأنسنة مقابل الإسلام عقيدةً وشريعة، بحيث يكونان متضادين من دون تلاقٍ، ويقصد بها في هذا المقام المغاير، مركزية الإنسان وتحرره العقلي من أية قيود، بحيث يتم التعامل مع كل المعطيات والموجودات وفق النظر الإنساني البعيد من كل التصورات القبلية، أو الدينية على وجه الخصوص، بحكم أن الأنسنة نتاج الردّة عن التطرف الأصولي للدين، وهي بهذا الاعتبار تنطلق من خلال مفاهيم علمانية ما بعد مسيحية، حيث بدأت المناداة بالأنسنة المشتركة بين البشر، بعدما ضاقت المجتمعات من حروب الطوائف واقتتال أهل الأديان ومواجهات التيارات الأصولية للمجتمعات الإنسانية. لذلك، برز في هذا الميدان عدد من الباحثين المنادين بالنزعة الإنسانوية أو الأنسنة أو الإنسانية، كمدخل نقدي وفكري يعالج تلك الظواهر الدينية المتشددة ويقدم حلولاً فكرية بديلةً عن لبوس العقائد والأديان، ولعل أبرز المساهمين العرب في هذا المنحى الإنسانوي في عصرنا الحاضر هو المفكر الدكتور محمد أركون (1928 - 2010) من خلال عدد من كتبه وأطروحاته العلمية، مثل كتابه «نزعة الأنسنة في الفكر العربي: جيل مسكويه والتوحيدي، ترجمة هاشم صالح، طبعة دار الساقي 2006» وكتابه الآخر «معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، ترجمة وتعليق هاشم صالح، طبعة دار الساقي 2001»، إضافة إلى الكتاب الذي ذكرته في أول المقال. ويعتبر أركون من أكثر المعاصرين استجلاباً للأنسنة وطرحها كرؤية ومخلص للعالم والإنسان، شرطها الأساس تحرير عقل الإنسان من أغلال التقليد، وفتحه على التأويل الحرّ الذي يعتمد علاقة جديدة بينه وبين النص، وبينه وبين العالم، تكون الأسبقية فيها للإنسان، أي أن الإنسان هو مرجعية ذاته، وهو الذي يؤوّل النص بعيداً من كل محدّداته القبلية أو التاريخية أو الأيديولوجية. ولعلي أُبرز أهم ملاحظتين على هذا الاتجاه الأركوني للأنسنة من خلال ما يأتي: أولاً: يفرق أركون بين الأنسنة الشكلانية المنفصلة عن الواقع والعنصرية في نظرتها إلى المجتمعات البشرية، والمتجهة نحو الإلحاد الذي لا يمكن الإنسان، أياً كان، الاستغناء عن حاجاته الروحية، كما ينتقد وفي شكل أكبر الأنسنة الدينية التي تدّعي الحقيقة المطلقة وتتمركز حول توظيف كل أشكال الحياة بأنها إرادة الإله القطعية، وهذا التصورات للأنسنة عند أركون صحيحة من حيث مطابقتها للواقع الإسلامي أو المسيحي في صورته المحرّفة أو المتشددة. لذا، يجعلها هدفه الأول في معاركه الفلسفية ضد أعداء الأنسنة، لكن يؤخذ عليه مبالغته الشديدة في الربط بين الأديان السماوية باعتبار وجود الجامع اللاهوتي المناقض لتحرر العقل وانفتاحه، وبالتالي يلغي أي فروق بين الإسلام والمسيحية في تعاملها مع مركزية الإنسان والاهتمام بعقله، كما في قوله: «إن قوة الانتفاض التاريخي للإسلام السياسي الحالي تجبرنا على استعادة المسار النقدي والجينيالوجي الذي اعتمده الفكر الأوروبي في مواجهة سلطة الكنيسة الكاثوليكية وضغوطها ومقاومتها ووضعيتها... فلا يمكن أن ينجح ما دامت الأطر والأسس التاريخية القصصية للإيمان غير مهدمة، كما هدمت أسس الإيمان المسيحي منذ القرن الثامن عشر» (الأنسنة والإسلام ص 34) وتكرر هذا المنحى في أكثر من موضع في كتبه، وهذا يجعل المعالجات التفكيكية للفكر اللاهوتي (المسيحي والإسلامي) تبدو واحدة ومتطابقة في شكلها ومضمونها التاريخي، وهو ما يحاول أركون تعميقه وإثباته بفتح باب النقد ليس على الممارسات المتطرفة للمسلمين، بل في جوهر الإسلام ذاته ومعتقداته المسلّمة التي لم تصطدم مع العقل أو تصادره، كما في مبحث الخلاص والسعادة من كتابه (انظر: الأنسنة والإسلام 65 - 85) باعتبارها حقائق نسبية وضعها البشر أنفسهم، وهذا ما يجعل موقفه حاداً ضد الأديان وممارساتها التقليدية ومنفتحاً للروحانيات الغنوصية والأدب الفلسفي الملحد. ثانياً: يقدم أركون قراءتين مزدوجتين، الأولى: تنظر إلى الفقهاء السنيين على أنهم «صغار الأئمة قليلو المهارة لم يتجاوزوا حتى الآن التلفيقية التفسيرية الساذجة التي تعيد بعض الثقة إلى المؤمنين والمؤمنات البسطاء المجذوبين نحو طقوسية وأيديولوجيا إسلام المعركة السياسية... فالسياسة السنية التقليدية (الأرثوذكسية) أو بالأحرى سياسة التشدد الدغمائية التي تقيد التعددية العقائدية، فهذه تعززت مع ظهور السلاجقة الأتراك ثم ازدادت قوة لعهد طويل مع ظهور العثمانيين» (الأنسنة والإسلام 42). فأركون هنا يحمّل هؤلاء أو كما سماهم أصحاب (الإسلامويات التقليدية) وزر تراجع نزعة الأنسنة ونكوصها، بينما يقدم قراءة نرجسية منتقاة للدولة البويهية الفارسية التي استولت على السلطة في بغداد عام 945م، لأنها انتسبت إلى الفلسفة المثالية وظهر فيها أبو حيان التوحيدي لتمرده الفكري على السياقات السنية التقليدية، ويعتبر استيلاء السلاجقة السُنّة عودة لهذا السياق اللاإنساني، ولم يقصد أركون من هذا التقسيم النفَس الطائفي، بل جعل أي حركة معلمنة ومتأثرة بالفلسفة اليونانية أو الليبرالية، سواء كانت في علم الكلام أو الأدب أو السياسة، هي منتج أنسني متقدم ينبغي الاحتفاء به، لكن من المهم الإشارة إلى أن هناك نماذج سنية يُعتبرون من أهم الفقهاء التقليديين - على حد تعبير أركون عنهم - من حيث تناولهم التأويل السلفي للعقائد والنصوص، كابن حزم وابن رشد وابن خلدون، ومع توجههم اللاهوتي، فإن أركون يشيد دائماً بدورهم الأنسني. لذلك، ليست العلة عند أركون في الأنسنة من عدمها ارتباط الفقيه بالنص واعتباره المنهج الأصولي في النظر والاجتهاد، بل بمدى تحرره من التقليد واتساع أفقه للثقافات الأخرى واعتماده على العقل في فهم الوحي وتنزيله، وهذه المواصفات موجودة في عدد من الفقهاء قديماً وحديثاً، ولو خصص أركون نقده في الممارسات المتشددة والمتعصبة من دون ربط ذلك بالوحي وقدسية نصوصه، لكان أجدى في النظر من لغة التعميم الطاغية في أبحاثه. (انظر للاستزادة : كتاب الأنسنة والتأويل في فكر محمد أركون، تأليف كحيل مصطفى، طبعة الدار العربية للعلوم – ناشرون، وكتاب الدين والنص والحقيقة. قراءة تحليلية في فكر محمد أركون للدكتور مصطفى الحسن، طبعة الشركة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى 2012، ص 93 - 110). ومع حاجتي الماسة في التعمق وزيادة البحث في فكر أركون، إلا أن لدي انطباعاً عاماً في ما توصلت إليه من قراءة، أن أركون تناول موضوعاً مهماً ثرياً في حقل الفكر الإسلامي كان يريد به العودة للفضاء الإنساني ومركزيته التي لم ينفِها القرآن في كون الإنسان خليفة الله ومحور رسالاته والمسخَّر له الكون وغير ذلك من قطعيات القرآن، لكن أركون من خلال موقفه اللاهوتي النقدي وعقله الوجودي جعل فكرته للأنسنة تعود للمثالية الفلسفية عقلاً لا واقعاً. أما الجزء الآخر من المقال، والمتعلق بالمقاربة المفاهيمية للأنسنة من خلال أنموذج الفقيه الأصولي، فقد اخترت الإمام الطاهر بن عاشور (1879 - 1973م) وهو أسبق في السياق الزمني من الدكتور أركون ولكن الأخير هو الأكثر من حيث التناول والإنتاج المعرفي في حقل الأنسنة. الإمام ابن عاشور قامة علمية يندر تكررها في التاريخ المعاصر، لسعة معارفه ودقة فهمه أسرار الشريعة ومقاصدها، يظهر ذلك في مؤلفاته الباهرة، وأهمها تفسيره العظيم «التحرير والتنوير» وكتابه المميز في «مقاصد الشريعة الإسلامية»، والمقصود في هذا المقال، إبراز النزعة الإنسانية على وجه الخصوص، باعتبار أن الإمام ابن عاشور قد اهتم بالنزعة الإنسانية وجعلها وصف الشريعة الإسلامية الأعظم، ومن خلالها بُنيت مقاصد الشريعة وذلك من خلال مفهوم (الفطرة)، فقد رأى أن معنى الفطرة الوارد في القرآن لم يجد من أتقن الإفصاح عنه (انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية، الشركة التونسية للتوزيع 1978، ص 57) كما في قوله تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» [الروم: 30]، فاستنتج ابن عاشور أن الفطرة التي فطر الله الناس عليها هي أصل الخلقة الإنسانية، وهذا الأصل الأنسني لا ينبغي أن يغيب في كل عقائد الإسلام وتشريعاته، يشرح مراده في تفسيره بقوله: «إن الإنسان مخلوق على حالة الفطرة الإنسانية التي فطر الله النوع ليتصف بآثارها، وهي الفطرة الإنسانية الكاملة في إدراكه إدراكاً مستقيماً مما يتأدى من المحسوسات الصادقة، أي: الموافقة لحقائق الأشياء الثابتة في الأمر نفسه، بسبب سلامة ما تؤديه الحواس السليمة، وما يتلقاه العقل السليم من ذلك ويتصرف فيه بالتحليل والتركيب المنتظمين، بحيث لو جانبته التلقينات الضالة والعوائد الذميمة والطبائع المنحرفة والتفكير الضار، أو لو تسلطت عليه تسلطاً ما فاستطاع دفاعها عنه بدلائل الحق والصواب، لجرى في جميع شؤونه على الاستقامة، ولما صدرت منه إلا الأفعال الصالحة، ولكنه قد يتعثر في ذيول اغتراره ويرخي العنان لهواه وشهوته، فترمي به في الضلالات، أو يتغلب عليه دعاة الضلال بعامل التخويف أو الأطماع فيتابعهم طوعاً أو كرهاً، ثم لا يلبث أن يستحكم فيه ما تقلده فيعتاده وينسى الصواب والرشد» (تفسير التحرير والتنوير، طبعة دار سحنون بتونس 31/ 425)، وهذه النتيجة التي توصل إليها، استعان في فهمها بشرح ابن سينا للفطرة، حيث جعل أن مشاهدة المحسوسات وعرضها على الذهن من دون شك فهو من فطرة القوة التي تسمى عقلاً، وقد تكون الفطرة صادقة من خلال مقدمات مشهورة محمودة أوجبت تصديقها شهادة الكل مثل أن العدل جميل، أو تقررت في الأنفس وتعودت عليها من دون نكران أو ضرر مثل الحياء والاستيناس، أو صدقتها الفطرة نتيجةً للاستقراء الكثير، وبناءً عليه يرى ابن عاشور أن الإسلام بأصوله وفروعه يتماشى مع الفطرة أي من النزعة الإنسانية الأصلية، والتي هي مشترك بشري عام، ولو افترضنا التعارض بين مطالب الإنسان وما جاء في الشريعة، فإن السبب لهذا التعارض هو انحراف الفطرة أو انحراف التأويل للشريعة. لذلك، جعل ابن عاشور الفطرة الصافية أو الأنسنة النقية من الأهواء، أعظم أوصاف الإسلام وتقوم عليها مقاصد الشريعة. وقد اهتم بضبط مفهوم الأنسنة من خلال معنى الفطرة الوارد في القرآن وذلك بذكر المحترزات، خوفاً من الوقوع في زلل الأفهام وانحراف التصورات، بالتالي يُجعل تصرف الإنسان أياً كان جزءاً من أحكام الشريعة، ولأجل ذلك قال: «إن المجتمع الإنساني قد مني عصوراً طويلة بأوهام وعوائد ومألوفات أدخلها عليه أهل التضليل، فاختلطت عنده بالعلوم الحق فتقاول الناس عليها وارتضوا على قبولها، فالتصقت بعقولهم التصاق العنكبوت ببيته، فتلك يخاف منها أن تتلقى بالتسليم على مرور العصور فيعسر إقلاعهم عنها وإدراكهم ما فيها من تحريف عن الحق، فليس لتمييزها إلا أهل الرسوخ أصحاب العلوم الصحيحة الذين ضربوا في الوصول إلى الحقائق كل سبيل، واستوضحوا خطيرها وسليمها فكانوا للسابلة خير دليل، وكون الإسلام هو الفطرة، وملازمة أحكامه لمقتضيات الفطرة صفة اختص بها الإسلام من بين سائر الأديان في تفاريعه، أما أصوله فاشتركت فيها الأديان الإلهية، وهذا ما أفاده قوله ذلك الدين القيم. فالإسلام عام خالد مناسب لجميع العصور وصالح لجميع الأمم، ولا يستتب ذلك إلا إذا بنيت أحكامه على أصول الفطرة الإنسانية ليكون صالحاً للناس كافة وللعصور عامة وقد اقتضى وصف الفطرة أن يكون الإسلام سمحاً يسراً لأن السماحة واليسر مبتغى الفطرة» (تفسير التحرير والتنوير 22/ 92). لذلك، دعا ابن عاشور إلى المحافظة على الفطرة بالعوائد السليمة كالآداب ومحاسن الأخلاق، بل إنه أبدع في ذلك عندما جعل «الحضارة الحق من الفطرة لأنها من آثار حركة العقل الذي هو من الفطرة، وأنواع المعارف الصالحة من الفطرة لأنها نشأت عن تلاقح العقول وتفاوضها، والمخترعات من الفطرة لأنها متولدة عن التفكير، وفي الفطرة حب ظهور ما تولد عن الخلقة» (مقاصد الشريعة ص 59). واعتبر هذا الفهم من ابن عاشور في غاية العظمة والسمو العقلي، فالقليل جداً من سار على هذا المنوال الإبداعي والتجديدي الذي يطوّر مفاهيم الدين بكليات النظرة الأولى، كالعودة إلى الأنسنة أو الفطرة، فيرتقي بالواقع بدلاً من سحبه إلى ماضوية الاجتهادات السابقة وتفريعات الفقهاء الأوائل التي نجحت في علاج واقعهم وفق تصورهم آنذاك في حين قد يكون حلّهم السابق مشكلةً واقعة في عصرنا الحاضر، ويمكن أن تُؤسَّس على مفهوم الفطرة عند ابن عاشور، مجالات تجديدية متنوعة وفق مساقات الحياة الإنسانية المستجدة. وأدّعي من دون يقين أن فكرة العقد الاجتماعي الذي أتى بها جان جاك روسو (1712 - 1778) ليست ببعيدة عن مفهوم الفطرة وتأسيس الأفعال والأقوال والتشريعات صحة وسقماً على هذا الأساس الذي سماه بالقانون الطبيعي (انظر: في العقد الاجتماعي لجان جاك روسو، ترجمة عبدالعزيز لبيب، طبعة مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى 2011، ص 120، الكتاب الثاني الفصل السادس). إن الأنسنة اليوم – من وجهة نظري - مجال خصب وحيوي لفعلٍ حضاري رشيد ومشترك إنساني مفيد، قد يساهم بلا شك في تخفيف سياسات القهر التي تفرضها القوى العظمى على الإنسان الضعيف في العالم الثالث، أو تسلّعه كغرضٍ تجاري قابل للاستهلاك والفناء، ونحن أمام تفعيل هذا النوع من الأفكار المؤسِّسة للمشترك الإنساني ليقاوم هذا المدّ العولمي، نحتاج إلى أركون ونقده للأصولية أو الأيديولوجيات التي همّشت الإنسان أمام لاهوت التقليد والتبعية القروسطية العمياء، من دون أن نهمّش ما قرره ابن عاشور من صحة ما جاء في فطرة الإسلام من تحقيق عملي لمركزية الإنسان كأصلٍ جوهري لأكثر الأحكام الشرعية بشرط أن تخلص من فساد التصورات والعوائد الباطلة، وبذلك نحيي روح هذا الإنسان وعقله بعدما أعلنت العولمة موته الحضاري.