الفقه هو صمام الآمان للتشريع، ومن خلاله سادت الأمم وعلا شأنها الحضاري، واستطاعت مواكبة المستجدات والتكيف مع المتغيرات. الدكتور مسفر القحطاني الذي ولد في الخبر تحت مظلة «أرامكو» بتنوعها الحضاري والتنموي، والتي من خلالها صبغت على ضيفنا سمات شخصيته وتفاعلات حياته. اختار التقليدية كتخصص دراسي، لكنه نسج منه إبداعاً وواكب فيه متغيراً ومستجداً.. ابتعد عن النص المثقل بالقديم، وصاغ منه نصوصاً أجمل وفق منهج لا يحيد عن الطريق ولا يثير بلبلة. القحطاني فقيه أصولي أكاديمي، اهتم بحقوق الإنسان، ويدعو طالبي العلوم الشرعية إلى فتح أبواب الفقه الجديدة مع المتغيرات الكونية والمنظمات العالمية والتحالفات الدولية. يرى أن المواطن السعودي ظُلِم من النخبة تارة ومن المؤسسة الرسمية تارة، وما زال يُحرم من فرص للحياة أجمل. ويدعو منظومة الفقه عندنا لتجديد أطرها وآلياتها وتغير من طريقة تعاملها. ويؤكد القحطاني أن الجيل الحالي أحسن حالاً ممن قبله، لقدرته على التمييز وعدم خوضه لصراعات الصحوة وخطاباتها القديمة وقدرة الإعلام الجديد على منحه كل شيء في مشهد واحد. فإلى نص الحوار: كيف أمسكتْ بيدك لتغدو ما أنت عليه الآن؟ - لم أصل بعد إلى ما أصبو إليه، ما زلت في أول الطريق، وما زلت أكتشف في كل لحظة طول المسير وقلة الزاد والمعرفة، نخطئ إذا شعرنا أن ما وصلنا إليه من مرحلة معرفية أو أكاديمية هي البلوغ النهائي للمعرفة أو خاتمة الطريق. حقيقة أشعر أني في البدايات واستصغر نفسي كثيراً، لم أقرأ كتاباً لعالم، ولم أتعرف عليه من قبل، أو مجالاً معرفياً قصرت في البحث فيه، كما أندم على لحظات الغفلة والكسل التي انطوت مع الأيام من دون رجعة. يلزمك أن تكون محروماً من شيء كي تدرك قيمته.. ما الذي حرمت منه صغيراً وكان جذوة إبداع لك حال الكبر؟ - أظنه لا يلزم من الحرمان لشيء أن يكون سبباً في إبداع الحصول عليه عند الكبر، ولكن ربما يكون حال الشغف في الجديد والتطلع للمزيد، واكتشاف المجهول دافع قوي للبعض أن يسلك بعض الطرق غير المألوفة، وربما أكون من أولئك على الضعف في السير وعشى في الرؤية. كما لا يخفى أن المحيط الاجتماعي والقرابة يصنعون مناخاً إيجابياً للعطاء والتقدم، وأسرتي ولله الحمد خصوصاً والدتي كانت ذات همة تمنحنا رؤية إلى الأعلى، ودفقاً معنوياً لبلوغ المراد والتفوق. أفضل إثبات على الإطلاق التجربة.. أي تجاربك أشد ألماً؟ - كانت هناك تجارب مؤلمة في الحياة، بعضها كان في حقل التعليم والدراسة الجامعية، وبعضها كان في حقل الإغاثة الخارجية، فعندما كنت في سن ال18 عام 89 ميلادي. رأيت فضائع الحرب والتشريد والقتل في عدد من الدول، وكان هذا مؤثراً في مثل سني، ولعل آخرها ما حصل في مخيم الزعتري عام 2013 عندما انهمر المخيم بالثلج والمطر، وكنت حاضراً في وقت بلغت فيه درجة البرودة 2 تحت الصفر، وغيرها من جولات في بعض المجتمعات خصوصاً الفقيرة والمنكوبة، وهناك تجارب حياتية وعاطفية كان أشدها وقعاً وألماً على نفسي ولا تزال تدمي أعماقي كلما تجددت الذكرى، وهي ذكرى وفاة والدتي في حادثة سير بين يدي. التكنولوجيا وعقولنا إلى أي حد تعوّل على التكنولوجيا في تربية عقول صغارنا؟ - التقنية المعاصرة مذهلة وجاذبة ومتجددة بشكل يصعب اللحاق به، وأطفالنا نشأوا في هذا العصر المحموم بالتقنيات المتعددة، وأهميتها في تنشيط الذهن والذكاء لا أحد ينكره، ولكنه ذكاء ونشاط تفصيلي فروعي، أي ضمن أطر ضيقة وصغيرة جداً، مثل إتقان أطفالنا لألعاب إلكترونية وبرامج حاسوبية في غاية التعقيد، لكنهم في القضايا الكبرى المتعلقة بأهدافهم ومسارات حياتهم وقدرتهم على التحليل والربط بين المواقف والقضايا أجده ضعيفاً وخاملاً بدرجة كبيرة، فالتقنية لا تربي بل تنمي مجالاً واحداً في العقل هو المتعة والدهشة. مع ثورة التقنية الآن فقد البشر قدرة عقلية معينة اسمها «الذاكرة»، فما عاد أحد يحفظ رقم هاتف أو كتاب عناوين.. فكيف نلتزم بتحفيز صغارنا على استخدام الذاكرة بدل الاعتماد على العم «غوغل»؟ - نعم فقدنا دور الذاكرة في الحفظ وقوة الاستيعاب، ولكن من وجهة نظري أن ثورة التقنية أفقدتنا حاجة أهم وهي «التأمل»، وفهم الطبائع والتفكير الحر والنظر البعيد، ويمكن معرفة ذلك بوضوح في جيل ما قبل التقنية، مثل الشيوخ كبار السن أو أهل البادية، لذلك تؤطر التقنية وآلاتها عقولنا في قوالب جامدة، ومعطيات صلبة غير قادرة على الانعتاق السهل نحو فضاء الفكر ومشاعر النفس. ما هي القطعة الصغيرة التي تتوقع أن لها عظيم الأثر في تخليص الصغار من ضوضاء التقنية المحيطة حتى يتسنى لهم «التخيل»؟ - العودة إلى روحانية القلب وتعظيم الخالق، فهي تعمق فينا الإنسان السوي بدلاً من الإنسان الآلي، كما أن إثارة الوجدان النفسي نحو الجمال والفنون بأنواعها يعيد لنا طبيعتنا الإنسانية المفقودة، ويطلق مشاعر الحب والخيال وإدراك المعاني. نشأتك في الشرقية، هل منحت فقهك أحكاماً أسهل؟ - المنطقة الشرقية فيها انفتاح وتعددية، والعائلات القديمة التي جاءت بعد اكتشاف النفط لها طبيعة مختلفة أيضاً، ووالدي حفظه الله التحق بالعمل في شركة أرامكو قبل أكثر من 60 عاماً، وولدت في مدينة الخبر ونشأت في مدارسها، والتحقنا ببرامجها الصيفية المتنوعة، أعتقد أن هذا كان مؤثراً في أبناء جيلي من نواحٍ عدة في التكوين والتفكير والانفتاح. التوجهات الفكرية عندما كنت طالباً جامعياً، هل كانت التوجهات والاهتمامات وطريقة التفكير تختلف عنها الآن بين الطلاب؟ - بالتأكيد هناك اختلاف بين جيلي وجيل اليوم من حيث اختلاف المناخ السائد في كل فترة، فمرحلة التسعينات الميلادية كانت أوج حالات الصحوة ومراهقتها، والاهتمامات كانت بحسب الخطاب الأقوى آنذاك الذي كان دينياً بشكل كبير. كما أنه كان عاطفياً وسطحياً بشكل واضح، ولا أنفي أن هناك إيجابيات في المجال السلوكي والأخلاقي والتربوي بشكل عام، بيد أني ألحظ أن جيل اليوم من خلال تدريسي في الجامعة 18 عاماً أنهم جيل فريد أيضاً، فمناكفات الصحوة وتياراتها لم يدركوها، كما يغلب عليهم التمييز والانتقاء والعقلانية في بعض المواقف والقرارات، وربما أسهمت مواقع التواصل في تكوين سوق كبيرة للرموز والشخصيات والآراء والأفكار، فيضطر الشاب لوضع منهج لتحديد الاختيار اللائق به. في ظل شح الوظائف، كيف سيقبل الطلاب على الدراسات الإسلامية؟ - لن يقبل عليها ويبدع ويتميز فيها إلا محب راغب في العلوم الشرعية، ومن دخلها مضطراً بلا رغبة، فأنصحه بتحويل مساره وتحديد توجهه في ما يرغب فيه، فالعمر مرة واحدة والفرص لا تتكرر. كل الكليات تفرض مقررات إسلامية إجبارية، بعضهم يرى أنها مناهج ثانوية لا جديد فيها، ما رأيك؟ - أعتقد أن بعض الجامعات بمناهجها وطرق تدريسها ما هي إلا مجرد إكمال لمرحلة الثانوية في سنة رابعة وخامسة، والتعليم الجامعي ينبغي ألا يكون تلقينياً، بل هو لتعليم البحث والمهارات والتشجيع على التعلم الذاتي بالحوار والمناقشة وقبول الآراء. أنت تعمل في جامعة للبترول والمعادن، أين تجد لك موقعاً فيها وأنت في تخصص لا يمت لها بصلة؟ - الموقع الحقيقي الذي أشرف به أن أكون بين طلابي وأصدقائي في قاعة الدرس، أقول ذلك لأن هناك شغف كبير لدى بعض الأكاديميين بالعمل والمنصب الإداري، وهذه ظاهرة غير صحية ربما تنعكس على مستوى الطالب والأداء التعليمي، فالتمييز والمنصب الأكمل للأكاديمي هو أمام الطلاب وبيدك القلم أو الطبشور، أما سؤالك عن جدوى تخصصي في الجامعة فهو سؤال وجيه، لذا اخترت أن تكون أبحاثي أقرب لتخصصي، وتدريسي وفق ميولي، وأنا أدرس مادة حقوق الإنسان في الجامعة. فقه النفط هل سنصافح يوماً فقهاً للنفط ومصادره؟ - لدينا نقص في فقه العمران والتدبير المعاشي بشكل عام، وليس فقط في المجال النفطي، وهذا ما دعاني لمحاولة كشف هذا النوع من الفقه في كتابي «الوعي الحضاري» كمدخل لفقه العمران الإسلامي، والمجال التدريسي والبحثي في الجامعات لا يزال مجدباً في تطوير هذا النوع من الفقه الحياتي. ما الأصول الفقهية التي لا بد من مراعاتها في اقتصاديات النفط؟ - هناك أصول فقهية عامة يمكن أن تكون مرجعاً استدلالياً لاقتصاديات النفط وغيره، مثل مقاصد الشريعة وقواعدها وما يترتب على مصلحة العمل بها من ضوابط، وهذا يمنح الفقيه الاقتصادي أفقاً أوسع في البحث عن مضان تحقق المقصد المطلوب في كل النظريات الإنسانية التي أسهمت في تطوير الانتفاع بالنفط وغيره، وتوظيفها في المقصد العام للتشريع في تحقيق المنافع وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها. مصطلح السياسة الشرعية هل هو واضح للعيان؟ - مصطلح السياسة الشرعية غير واضح، ومجاله الفقهي ضعيف بالمقارنة بالأبواب الفقهية الأخرى، ولم تكتمل النظرية السياسية الشرعية بشكلها المطلوب حتى الآن، ولا يزال هناك تخبطاً فقهياً تمارسه بعض التيارات السياسية الإسلامية من حيث التنظير والتطبيق، ويمكن اعتبار أنموذج النهضة التونسي الأبعد عن التناقض بين موقفه الفقهي وموقفه السياسي. هل تشعر أن الأصوليين في الفقه في تناقص، بعكس المفسرين والمحدثين والعقديين؟ - العكس هو الأصل، فالأصولي هو الأكثر عناية واهتماماً بالمنهج، والدرس الأصولي أهم ثماره عدم التناقض في الاستدلال، ولذلك يبالغ الأصولي في ضبط منهجه بالرجوع لكل القواعد الضامنة والعاصمة من التناقض والاختلال معتمداً على المنطق وعلم الكلام وقواعد اللغة وصحة التنزيل في الواقع، كل ذلك لتأكيد صحة مذهبه ورأيه. صاحب القرار ألا يلزمه أصولي يفقهه ويشرع له؟ - المستشار الشرعي ضرورة لكل صاحب قرار، وإذا لم يكن أصولياً مقاصدياً في فتواه أو اجتهاده الشرعي وإلا كان ضرره أكثر من نفعه. الفقه الأوروبي ما الفرق بين فقهنا والفقه الأوروبي.. هل الزمان والمكان يغير من الفقه قليلاً؟ - الفقه من وجهة نظري هو حسن الفهم والتأويل مع حسن العمل والتنزيل، والنصوص الشرعية قليلة في معالجة النوازل والمستجدات، لذلك لا بد من فقيه مجتهد يستلهم هذه النصوص بحسن تدبيرها لحياة الناس المتغيرة. والواقع الأوروبي واقع مختلف، وبيئته متباينة مع بعض واجبات الدين وأحكامه، لذلك كان لا بد من فقه الموازنة والعمل بالأيسر، وحسن تقديم البدائل المباحة عند المنع. وعالجت هذا الإشكال في كتابي «منهج استنباط أحكام النوازل الفقهية المعاصرة». بين الصراع الحضاري والوعي الحضاري، هل من أمل في مساحة هادئة تمنحنا إنجازاً تسعد به المجتمعات؟ - نعيش صراعاً حضارياً محموماً ربما تتكشف بعض أوجهه صداماً ومواجهة صلبة، وأحياناً كثيرة تظهر الأوجه الناعمة لهذا الصراع المعتمد على إلغاء الآخر وإفنائه بتذويب ثقافاته والتنازل الطوعي عن آدابه واعتقاده. وهذا الصراع يؤزم كل الحضارات الغالبة والمغلوبة، ولا بديل للعالم عن المنهج الإسلامي القائم على (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا)، بمعنى إيجاد تعارف حضاري وسلم تعايشي قائم على تبادل المنافع ومحاربة المفاسد، وهذا لن يتأتى بغير وعي يصل إلى عمق الإدراك وتأصيل يمهّد للعقل فهمه واستيعابه. متى بدأ يفرض عليك الوعي الحضاري أطروحاته ومنهجياته؟ - بدأت فكرة الوعي الحضاري بعد 2003، أي بعد أحداث 11 سبتمبر واحتلال العراق، حينها كانت التيارات الإسلامية في محل اتهام بسبب خطابها التراكمي والعاطفي الذي لم يجبر كسراً أو يبني قصراً، والتيارات الليبرالية في حال زهو وانتفاش وانتقام من خصومها التقليديين، بينما هناك جيل عريض من الشباب قادم ومتحفز، وبعيد من هذه المهاترات. ويحب أن يسمع خطاباً لا يفرض عليه حرباً مع أحد أو يطلب منه الانعزال عن الدنيا في عالم محموم بالتهافت الاستهلاكي الدنيوي، فكانت فكرة الوعي الذي يعتبر مرحلة أعمق من الإدراك والفهم البسيط، بحيث ينعكس على السلوك وينطبع في الوجدان، ويعيد لنا معرفة واجباتنا الدنيوية، ويقودنا نحو نهضة تليق بإمكاناتنا وثقافاتنا الإنسانية والحضارية. هل تشعر أن مجتمعنا قادر على الانسجام والتكيف مع المتغير الحضاري؟ - مجتمعنا السعودي فيه كل الفرص والإمكانات الحضارية المتوافرة بشكل عظيم، ولكن هناك تباطؤ وتلكؤ من المؤسسات الرسمية السياسية والتعليمية والدينية في صياغة المواطن الحضاري من خلال تقديم خطاب ديني نهضوي منفتح، وحريات مسؤولة، وقوانين عادلة، ورقابة صارمة وقضاء نزيه، وهذه مجتمعة تدفع بالنخبة أو الكتلة الحرجة لتحقيق الدافعية نحو النهوض الحضاري. الحضارات والنص الفقهي لماذا لا نطرق باب الحضارات إلا من خلال نص فقهي؟ - في غالب التاريخ الإنساني كانت الحضارات تنبع من الأديان، لأنها التي ترسم معالم نهوضها وتعكس عقائدها في أدب وثقافة وعمران، والمعابد اليوم تحكي قصة حضارة الإنسان أينما كان، والحضارة الإسلامية سادت وتمكنت وأبدعت بشكل لافت، ولكن تداعيات المغالبات السياسية بحروبها المرهقة والمزمنة، وتوقف الاجتهاد والتجديد الديني، وهيمنة الطرقية الصوفية الداعية للعزلة والزهد، كل ذلك وغيره أضعف تألق حضارتنا الإسلامية وأصيبت بداء الحضارات الفانية. فقه الحقيقة، فقه الواقع، فقه الأزمات، كيف لنا أن نصنع الحل من دون مساس في النص؟ - النص والوحي إذا ثبت لدينا صحته سنداً كما في السنّة، يبقى حسن فهم معناه ومدى قدرة النص لتعدد دلالته على معانٍ أخرى، وهذا الأخير هو ما سماه الشافعي بالاجتهاد، وهو القياس الذي تدور عليه غالب الأحكام، مدرسة التأويل المعاصرة أو القراءة الحداثية للنص، التي تخضع النص للنظريات البنيوية والألسنية والسيميائية اللغوية، وتنظر للنص والوحي وكأنها أمام نص أدبي أو تاريخي قابل لأي توظيف يحدث معنى جديد. وهذه القراءة على رغم بروز نظرياتها فالنقد المعرفي لها لا يرتقي لتفكيكها ودحض ادعاءاتها، إذا استثنينا طه عبدالرحمن في روح الحداثة، في مقابل مدرسة غارقة في الجمود والخوف من الجديد، والمطلوب المحافظة على النص وفق دلالاته اللغوية التي نزل بها، ودلالاته الأصولية التي يستدل بها، فحينئذ سنشهد حضور نص يجيب عن جميع المستجدات من غير قصور أو شطط. التطرف والفقهاء لماذا كل الحركات الإسلامية المتطرفة تبحث لها عن فقيه يشرع لها عملها؟ - التطرف يبحث عن فقيه يبرر جنوحه بعد وقوع الفعل، وليس فقه يؤصل منهجه قبل حصول الفعل، بمعنى أن الغلاة الذين اتخذوا مذهب القوة في التغيير عادة ما يكون التشريع مبني على مواقف عاطفية أو سخط وانتقام نفسي أو قول شاذ وافق هوى مستحكم. كيف تقرأ المكون الفقهي للجماعات الإسلامية؟ - المكون الفقهي لدى الجماعات الإسلامية يختلف بحسب اختلاف الجماعة، فهناك من يشكل المكون العقدي معظم أدبيات الجماعة وفكرها لذلك تميل للمفاصلة والغلو، وهناك من يغلب عليها المكون المذهبي لمدرسة أو شيخ معين، وهؤلاء يعيشون فقراً معرفياً وانحباساً في التقليد، وهناك من يغلب عليهم المكوّن المقاصدي، لذلك يكتسبون المرونة والتجديد، وهذا بحسب واقع الخطاب الذي يظهر في أدبيات تلك الجماعات. ما الذي يغير موافق العلماء والدعاة.. هل للفقه دور في ذلك؟ - الذي يغير مواقف العلماء والدعاة خصوصاً ذات الطابع الحاد وغير المفسّر أمرين بارزين من وجهة نظري: الأول: السلطة وإملاءاتها، والثاني: الجمهور ورغباته. الفقه يحدث تغيراً هادئاً ومنطقياً للعلماء والدعاة، وغالباً ما يكون تغيراً حميداً لأنه يدل على مرونة وعدم تعصب، بل ومنقبة للعالم أن يدور مع الحق حيث وجده. فقه المصالح والمنافع، من يبدع فيه أكثر؟ - يبدع فيه الأصولي المقاصدي، وهذا النوع من الفقه يبرز في الجانب العقلي ومدى عمقه لدى الفقيه، لأنه يعتمد على موازنة وأولوية لقواعد كثيرة، منها تقديم العام على الخاص والكلي على الجزئي والأصل على الفرع والجوهري على الشكلي والمتعدي على القاصر والمآلي على العاجل، وهذه وغيرها تحتاج إلى تمكّن وأفق عقلي ومقاصدي عالي المستوى. فقه المرأة، لماذا أصوله تحرم المرأة من أبسط الحياة؟ - أصول فقه المرأة لا تختلف عن الرجل، وإن كانت أحكام المرأة فيها تغليب الصيانة التي تعلي من شأنها وتكرمها بما لا يخدش حيائها، لكنها لم تجعلها حبيسة أعراف لم ينزل الله بها من سلطان، واعتبارها فتنة في كل مناحي الحياة. وهذا النظر ربما يستدل له أصحابه بنصوص عامة يتأولونها، وأقوال بعض العلماء يقولبونها، لكن يصدم ذلك الواقع الحياتي الذي تلقته الأجيال عبر عصور شاركت فيها المرأة الرجل في معظم الجوانب الحياتية المتناسبة مع طبيعتها، فالأصل الإباحة ما لم يرد نصاً مانعاً أو مآلاً ضاراً يهين المرأة أو يدفعها للابتذال. كيف تريد أن يتذكرك الآخرون؟ - أحب أن يتذكرني أهلي وأقاربي بخير صنعته لهم، وطلابي في فكرة أو نصيحة أو تجربة نقلتها لهم، وأحب أن يتذكرني من قرأ كتبي ومقالاتي بفكرة لمعت في ذهن أحدهم وأثارت تفكيره ولو للحظات، شخصي يبقى نكرة، وما نعرضه للناس هو ما أتمنى بقاءه، وهذا يعني بذل الجهد في احترام عقول ووجدان من قصدته بالتواصل. في تعرية واقع من نوع ما.. ما هي طريقة تمازج الأفكار.. هل تبدأ الأفكار بكذبة؟ - لماذا نصفها بالكذبة، إنها أقرب للخيال والافتراض المتوقع حصوله، والمفكر والمثقف يحاول أن يرسم ما يتخيله ويقارنه بواقعه ويحلل الفجوات بينهما، ربما يصيب وربما يكون حالماً مفرطاً في نومه! هل من واجبات الكاتب أن يهب الحياة شيئاً من النظام، وإن بالكذب؟ - الكذب لا يؤسس حقيقة، يبقى الزيف وإن بلغ بنيانه علواً ما، فإن أساسه الهش قطعاً سيهوي بمن صنعه، لنكن واقعيين مع مشاريعنا، وواقعيين مع طبائع حياتنا. في مجتمعنا المحلي دائماً نتكلف واقعاً مثالياً هو مجرد خيال، ونلبس لأجله أقنعة نخفي فيها حقيقة ما نفعل ونأمل ونمارس من طبائع، ليست بالضرورة كلها حرام ومخالفة للدين، بل هي من المباحات التي نترفع عنها بلا مبرر. الكتابه والتقلدية أنت تكتب بلغة جديدة، ودراستك كانت تقليدية، هل العيش بين مدرستين يهمّش الإلهام أم ينشطه؟ - أشكرك على مديحك وإطراءك وإن كان بعضهم يرى هذا الأسلوب من الكتابة تمييعاً ومجانبة للصواب المتخيل في ذهنه، على العموم يبقى اجتهاداً ومحاولة لتقديم أفكار لها متطلباتها المعاصرة في القبول، والشباب وهم أهم شريحة أحب أن أخاطبها، وهي تفهم ما أريد وأحياناً على مضض كرهها للتقعر الذي لا أتكلفه ولا أحبه. لو حصل، ودراستي التقليدية خصوصاً الأصولية هي التي أنتجت من وصف في الأمة بالمجددين مثل الشافعي عندما وضع مصنفه الأصولي الرسالة، والغزالي في إحيائه، والمستصفى والشاطبي في موافقاته، فهذه الدراسات التقليدية ربما تنتج تجديداً وإبداعاً أتمنى لو أبلغ درجة واحدة من سلمهم الطويل. هل تبدأ عناوين أطروحاتك كأصوات هامسة داخل رأسك، ثم تبدأ بالكتابة حين تصبح الأصوات مرتفعة بدرجة كافية؟ أم تضطر أن تستخدم لها مرة زر الكتم «mute»؟ - أفضل ما أكتب عندما يبلغ الضجيج مداه في عقلي ووجداني، وأظن ذلك حال الكثير ممن يمارس الكتابة كنبض مجتمعي، وأسوء ما يحصل في الكتابة أن تخنق الأفكار قبل خروجها، أو أن تُعدم في مقصلة الرقيب بلا مبرر سوى مزاج اللحظة أو عسكرة يمارسها الرقيب من دون طلب. هل ترى أن الإنجاز له صلة بنيل الاستحسان من الناس الآخرين؟ - رضا الناس وثناؤهم محبب لدى النفوس، وهو عاجل بشرى المؤمن كما ورد في الحديث، ولكن ليس دائماً يحصل الإنجاز ويقابله الناس بالثناء، والتاريخ يثبت أن هناك أعمالاً رائعة على المستوى الإنساني كان ردّ الناس لها بالحرق أو الطرد أو التعذيب لأصحابها، فهذا ابن رشد وابن حزم وابن تيمية وغيرهم مآلات أفكارهم ومشاريعهم الجبّارة أدت بهم إلى السجون أو الاختباء أو الطرد. ما هي انتصاراتك والتي هي أسوأ من الهزائم؟ - الانتصارات النفسية التي أظن أني تغلبت فيها على خصمي، وفي الواقع أني فقدت صبري واتزاني بهذا العلو الهامشي، هذا النصر هو أسوء الهزائم خصوصاً إذا كان في دائرة من تحبهم، وربما تضحي بكل ما تملك لأجلهم! الاعلام السعودي يقول غازي القصيبي - رحمه الله -: «الإعلام السعودي صار أكثر تحرراً ولم يصبح أكثر نضجاً»، هل تتفق معه؟ - الدكتور غازي - رحمه الله - عاش زماناً ليس زمانه، وتكلم مع قوم لم يفهموا كلامه، فإما تجاهلوه وإما حاربوه، ولو أعدنا اليوم معاركهم معه لوجدنا أن هناك قدراً من التشفي اللحظي لا مبرر له، وكلامه السابق لا اتفق معه فيه! فالإعلام السعودي لم يتحرر، ولن ينضج، ويعيش في عصر التقنية بألواح الكتاتيب! قال الله عزّ وجل (اقرأ) ولم يقل «صلِّ».. ما الذي تلمحه في اختلاف الأمرين هنا؟ - (اقرأ).. تم اختيارها بعناية الحكيم الخبير سبحانه لتكون أول أمر للبشرية ينزل على هذه الأمة، وبعد فترة طويلة من بعثة الرسل، وقيلت لمن اختاره الله لأعظم رسالة، وفي وقت التكريم له بهذه المهمة يطلب منه القيام بالأمر، وهو لا يعرف القراءة، وكان من العقلي أن يؤمر في هذا الموطن الخاص بوصف لائق فيه، ولكن الله تعالى أراد أن يلقنه مفتاح التغيير «المعرفة»، وكلمة السر (اقرأ). في الإعلام الجديد.. هل نفقه كثيراً تحدياته وسلبياته؟ - الإعلام الجديد ومواقع التواصل الاجتماعي في السعودية تسهم في خلق جيل مختلف في ميوله وأفكاره، وأسهمت في إنضاجه بشكل سريع ومخيف، أيضاً بمعنى أنه أسرع من مواكبة مؤسسات الدولة لتطلعاته، وهذا له دلالاته الخطرة في المستقبل ما لم تتحرك المؤسسات الشبابية بالسرعة ذاتها بدلاً من التخبط أو التعطل في البيروقراطية. نحن أكثر شعوب الأرض نصدر فتاوى لا نعرف واقعها! يرى الدكتور مسفر القحطاني ان الاستراتيجية المنهجية في البناء المعرفي مغيبة في معظم الجامعات التي يفترض فيها التكوين المنهجي، فما بالك باستراتيجية فقهية تعمق الفقه المتزن في مختلف القضايا الإنسانية، على رغم أننا أكثر شعوب الأرض إصداراً لفتاوى وأحكام على مواقف لم نعشها ولا نعرف واقعها. وحتى لو تم فرض قانون للمنع فلن يجدي نفعاً حتى يعرف المتجاسر على الفتوى خطورة ما يقدم عليه ديانة، ويستلهم مواقف العلماء عندما يتدافعون الفتوى خوفاً من الحكم فيها وليس التدافع نحو الفتوى. ويشير القحطاني إلى أن هيئة كبار العلماء هم من الفضلاء وكبار الفقهاء، ولكن المطلوب ليس تطوير الفقيه، بقدر ما نحتاج إلى تطوير عمل مؤسسة الفتوى وتنظيم مرافقها وتعزيزها بالباحثين والمستشارين من التخصصات كافة. ويؤكد ان فقه المنظمات والاتفاقات الدولية، لا يتسبب في حرج لفقهائنا، «حيث ان كل جديد سيحرج كل فقيه منغلق على مذهبه أو شيخه، وفقه المنظمات والاتفاقات الدولية مجال واسع للاجتهاد وتوضيح شرف وأسبقية مقاصد الدين من حقوق الإنسان ومن علاقاتنا مع الآخر المختلف. وأنصح طلبة الدراسات العليا من الاهتمام بهذا المجال البحثي، ففيه نفع كبير ومواكبة لمستجدات وقع فيها خلل كبير في حياة الإنسان المعاصر». السيرة الذاتية - أستاذ كرسي بقسم الدراسات الإسلامية والعربية، جامعة الملك فهد للبترول والمعادن. - دكتوراه في أصول الفقه الإسلامي. - ماجستير في السياسة الشرعية. - مدير تنفيذي لمركز الأمير عبدالمحسن بن جلوي للبحوث والدراسات الإسلامية بالدمام. - خبير في المجمع الفقهي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي. - خبير في القانون الدولي الإنساني التابع لمنظمة الهلال الأحمر الدولي، - أستاذ زائر للمعهد الأوروبي للدراسات الإنسانية في فرنسا. - عضو في عدد من الجمعيات العلمية والاجتماعية في المملكة وخارجها. - مشرف على موقع (الوعي الحضاري) الكتب المنشورة: - فقه الحقائق. - فقه الموازنات. - مناهج الفتيا في النوازل الفقهية المعاصرة. - فقه الاستطاعة. - المرأة.. والعودة إلى الذات. - كلمات في الوعي. - أثر المنهج الأصولي في ترشيد العمل الإسلامي. - الوعي المقاصدي. - الوعي الحضاري. مقاربة مقاصدية لفقه العمران الإسلامي. - سؤال التدبير. رؤى مقاصدية في الإصلاح المدني. - إصلاح المال. - نشر أكثر من 20 بحث محكم في دوريات ومجلات عالمية.