المتأمل للأتراك منذ تداخلهم في التاريخ الإسلامي يعرف مدى القلق الذي صدروه للشعوب العربية لما يزيد على الألف عام منذ تواجدهم إبان الدولة الإسلامية، سواء احتلال البلاد العربية والتنكيل بشعوبها، أو السيطرة على الحكومات بما فيها الخلافة العباسية وإضعافها حد التلاشي، فما أن وصل المغول إليها إلا وهي قد أصبحت لقمة سائغة، فتم سحقها بسهولة. قد يقول قائل، لهم بعض الحسنات التي لا تنكر من مثل مواجهة خصوم الإسلام من القوى المسيحية والمغولية، وهنا أقول نعم كنا معهم كمن أتى ووجد الظل ممتدا فاستفاد منه دون أن يتقي لهيب الصيف، ذلك أن تلك المرحلة أتت في زمن التدافع بين القوى حينها واستفاد منها المسلمون والعرب في بلدانهم، وكان شأننا معهم استبدال الطاغية الصليبي أو المغولي بالمسلم الأقل عنفا، والأكثر تكريسا للضعف والوهن في أجساد شعوبنا العربية التي لم تتحسن على أي صعيد؛ علمي أو حضاري أو عسكري أو اقتصادي، ولهذا وبمجرد ضعف الدولة العثمانية تساقطت معظم الدول العربية تحت نير الاستعمار لأنها كانت ضعيفة غير قادرة على المقاومة. من يعرف الشعوب التركية يدرك أنها لا تقبل التعايش ولا التمدن والحضارة، فمهما تغير الشكل تبقى جلافة التركي حاضرة قمعية، عشنا معهم كمن يجاور الذئب في الجوار يستئنس بصوته ويخشى عدوانه وهجومه. ومع ذلك وإجابة على السؤال، هل يستحيل التعايش معهم؟ أقول لا، ليس مستحيلا، بل ممكن جدا، ولكن في إطار من التكافؤ ووجود قوة موازية لهم للردع حال الاحتياج إلى ذلك. إن المتأمل في الشأن التركي حالياً والحالة الإردوغانية ومتابعة هذا التصعيد وهذا الجور المستمر ضد المملكة العربية السعودية، يدرك أن سبب ذلك هو أن إردوغان يعرف تماما أن هذه المملكة لم تذعن لممارسات أسلافه، فقد خسرت السعودية مع الأتراك من الدماء والأرواح الكثير في الماضي، ولكنها رفضت أن تتنازل عن مبادئها وصفائها، وهو يراها الآن في ذات الموقع من الريادة، مما يشكل عقبة أمام أوهامه التي يتطلع إليها ليصبح السلطان والخليفة المنتظر للبعض من المنبطحين في الجوار. لذا ليس بمستغرب تلك المراوغات والافتراءات التي يصدرها إردوغان بصريا وسمعيا لبعض الضعاف من الجماهير، فهو صباح مساء، يروج الإشاعات عن المملكة التي تمضي بقوة، متأهبة بالحلول لكل طارئ قد يصدره عبر قنواته المتخاذلة من بعض الحكومات والجماعات المستلبة للأسف والمغيبة عن قراءة الواقع، أو المندفعة وراء حسابات ضيقة لا قيمة لها. من زاوية أخرى وغير مسبوقة في التاريخ التركي وفي حالة نادرة إذ تعتبر إنجازا إردوغانيا بجدارة ألا وهي تلك اليد الممتدة باتجاه الدولة الفارسية، فلم يحدث أن توافق الأتراك في كل تاريخهم مع الفرس بسبب الاختلاف والتباين المذهبي والعرقي، وللتنافس المستمر تاريخيا بين الطرفين، ولكن إردوغان قفز على كل ذلك، في سبيل تحقيق أهدافه، فالعدو التاريخي الفرس لم يعد هو العدو، بل استبدله بالمملكة، في حالة استفهامية غير منطقية! وهنا يأتي إردوغان البرغماتي ليضع الإجابة أمامنا، فهو بكل بساطة يستبدل الأعداء بالأصدقاء والعكس، طالما سيحقق أهدافه، دون النظر للمبادئ التي يسوقها بصورة رديئة هنا وهناك عبر الأصوات والمواد الإعلامية المعدة لذلك، وخير دليل على برغماتية إردوغان انقلابه على معلمه ومرشده نجم الدين أربكان الذي لخص قيمة إردوغان عندما وصفه بخائن وسارق أمجاد غيره. وفي حالة عجائبية أخرى لهذا الشخص القلق تلك العلاقة مع إسرائيل التي تأتي منسجمة مع التاريخ التركي الحديث الداعم لها في الواقع وخاصة عبر منصة حلف الناتو الذي مرر الكثير من صفقات الأسلحة عبر المصانع التركية لإسرائيل في شراكة وحلف حقيقي بين الجانبين، وما عنترياته الإعلامية عبر رسائل الغضب التي يظهرها في وسائل الإعلام أو المؤتمرات إلا لذر الرماد في العيون، لأن ما يجري تحت الطاولة من تطبيع ومن تبادل تجاري وسفراء مع الجانب الإسرائيلي، يفضح كل ذلك وبصورة مقززة وغير مقبولة من شخص يدعي تضامنه مع قضايا المسلمين ويدعى غيرةً على المقدسات. وحتى في مزاعمه التي يظهر فيها شيئا من الانزعاج الإعلامي مع إسرائيل يجد نفسه الطرف الخاسر دائما عندما يخرج عن الإطار المرسوم، ولعل الدليل في هجوم إسرائيل على سفينة مرمرة التركية في مايو 2010 واجتياحها والاعتداء على ركابها دون أي ردة فعل سوى المؤتمرات الصحفية والعبارات الفارغة. الأدهى من ذلك أنه وبعد الكثير من الصخب الإردوغاني الإعلامي تجاه إسرائيل نفاجأ ودون أدنى خجل بإسقاط المحاكم التركية لجميع التهم ضد إسرائيل وضباطها المعتدين في حادث السفينة، في دلالة واضحة على هشاشة وضعف رأي هذا الشخص الذي أصبح يخسر كثيرا في الداخل التركي بنفس قدر خسارته الخارجية. في هذا الوقت تسير المملكة بقيادتها الواعية والقارئة للتاريخ والأحداث والواقع، وبمنطلقاتها المرتكزة على الحق بعيدا عن كل المزايدات الإردوغانية، وبعيدا عن مهاترات حلفائه الممتلئين بتلك الأحقاد على كل صور النبل والوفاء التي تمثلها وتقودها المملكة لحماية مقدسات المسلمين ودعم فرص العيش الكريم لكل البلدان العربية والإسلامية الشريفة التي لم ترتهن لكل تلك الجعجعة الفارغة سواء باللسان التركي أو الفارسي أو العربي، الذي رهن شرفه وشعبه لسارقي أحلام الشعوب. وبعد كل ذلك وقبله سيبقى قولنا وشعارنا في مملكة الخير، والعروبة، والإسلام لجميع المتخاذلين والمهرولين والغوغائيين "ماضون لنبني ولنعمر الحياة وسنترك للمتخاذلين مضغ الحصرم".