الفراغ في المشرق العربي جاذب للحضور الغربي المباشر وغير المباشر بالأصالة أو بالوكالة عبر إسرائيل أولاً وغيرها ثانياً. وهذا الواقع سيؤدي الى تعاظم دور تركيا التي استنفدت فيها طاقة المرحلة الكمالية وكان لا بد من تجديدها آخذاً في الاعتبار ما حصل من تقدم الإسلام السياسي ووراثته للأطروحة القومية والوطنية المفلسة في محاولة بناء الدولة الحديثة على أساس التوفيق بين العروبة والغرب كمنشأ للفكرة القومية، من هنا كانت المحطة الإسلامية الأربكانية إطلاقاً للاحتمال الإسلامي الى غايته المنطقية القصوى، ولكن شموليته وأصوليته تخطتا ما تتحمله تركيا من مشروعات عابرة للواقع التركي الذي قام على الكمالية العلمانية التي انتهى وقت صلاحيتها للحاضر والمستقبل من دون أن يعني ذلك إمكان اجتثاثها، بل تجديدها أو إعادة تأسيسها على موجب التركيب بين القومي والإسلامي كضرورة كان يصعب على عملية التحديث الشكلانية إلغاؤها. وانتهت تركيا بعد استنفاد المرحلة الأربكانية وعجزها عن الاستمرار، انتهت الى المحطة الأردوغانية التي أرست تركيا على حال مركبة من العلاقة بالغرب الى جانب مقدار من التمايز لا يصل الى القطيعة، من دون أن يكون الاندماج الدخول في أوروبا أمراً ميسوراً في المدى المنظور ولا ميؤوساً منه في المدى البعيد، الى ذلك فإن تركيا أردوغان قدمت مسلكاً توفيقياً واقعياً ومقبولاً بين العلمانية والإسلامية ذات النزوع الى الليبرالية، ما جعل العسكر يضيئون الشارة الخضراء أمامها لتمر فتريحهم من عبء المكابرة في استعمال قبضاتهم لضبط الوضع العام والحد من تعبير الحيويات المستجدة على ذاكرة امبراطورية وعن نفسها في المظهر والخطاب الديني. ولأن التجربة الأردوغانية النيوإسلامية لا تحمل أوهاماً عن نفسها، فإنها تدرك أن الواقع التركي قد اختارها لأداء مهمة محدودة في زمن محدد، ولا يعني ذلك أن أداء المهمة تامة أو غير تامة، سيكون موعداً ملزماً بنهاية ناجزة وشاملة للأردوغانية، ما التفت اليه أردوغان وقرر أن يستخدم أكثريته النيابية التي أوصلته الى رئاسة الوزارة، في حجز موقعه في بنية الدولة على فعالية أقل، خوفاً من أن تنتهي مرحلته بانتخابات نيابية تحرمه نهائياً من فرصة الاستمرار في الهيكل السلطوي، وعليه فإنه سيكون مرشحاً قوياً لرئاسة الجمهورية، وقد يفوز إذا لم يوفق نجدت سيزر الرئيس الحالي في استقطاب العسكر والقوى العلمانية والليبرالية بعامة لتجديد رئاسته، خصوصاً أن العسكر قد يكون على قناعة بعدم الحاجة الى الانقلاب وأن بقاء أردوغان في المشهد يرضي ويكفي حساسيات إسلامية لا داعي لاستفزازها. وقد أتاحت المرحلة الأردوغانية لتركيا فرصة لتنشيط حركة نموها من خلال المشترك الإسلامي الذي جمعها مع إيران والعرب من دون قطيعة كاملة، ومع الاعتراض الكامل على سلوكيات إسرائيل في فلسطين وغيرها... هذا كله يعني أن هذا الجزء، الجزء التركي من حيز الكثافة في المنطقة ذاهب الى مزيد من تحقيق المصالح التي تؤهله لدور أكثر فاعلية، في حين أن الجزء الآخر من هذا الحيز، أي إيران، لا تشكو من صفف على مستوى تحقق الدولة المركزية بالطرق الديموقراطية وبنسبة مجزية من هذه الديموقراطية، ولا تشكو من فقر بل تتمتع بإمكانات اقتصادية ومقدار من الثروات والحيويات والكفاءات، ما يؤمن لها حراكاً واسعاً وفي كل الاتجاهات، وهي تقوم بذلك باندفاع ملحوظ منذ نجاح الثورة الإسلامية وبناء دولتها، وإذا ما كانت محكومة بمنطق القوة الذي يخيف أصدقاءها المفترضين كما يثير شكوك أعدائها ومخاوفهم، فإنها أدركت وتدرك ما ينقصها من اعتبارات لتصبح أكثر أهلية لتوسيع دورها وتثميره إقليمياً وعلى مستوى علاقتها بالغرب، هذه العلاقة المحكومة بنظام مصالح وطنية إيرانية تنتهي الى تسويات غير نهائية أفغانستانوالعراق مع الغرب ومع الولاياتالمتحدة خصوصاً، ويمكن أن تمتد آثارها الى السلاح النووي بناء على ما ينتهي اليه الوضع في العراق الذي أصبحت فيه إيران شريكاً راجحاً على واشنطن، ثم في لبنان الذي ظهر فيه ان الشراكة السورية لإيران هي شراكة تقنية وليست شراكة في القرار الأخير. ما أدركته إيران هو أن شيعيتها مصدر حيويتها وتماسكها الداخلي، وفي عمقها الشيعي في البلاد العربية، قد يكون هو ذاته عامل إعاقة في توسيع مدى فعاليتها وتعميقها، الى ذلك فإن قوميتها الفارسية الغالبة، أو وطنيتها الإيرانية المفهومة قومياً في البلاد العربية، تضاف الى شيعيتها في إنتاج اشكالياتها وتعقيدات دورها. من هنا كان اختيارها المبكر، والمتزامن مع حربها مع العراق والتي حرمتها الى حد كبير من وهجها العربي أثناء الحرب وشوشت وجهها التواصلي بعدها، كان اختيارها أن تكون الداعم والراعي الأول لمقاومة الاحتلال الصهيوني للبنان في لحظة انحسار عربي بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية إثر احتلال عام 1982... أي انها شغلت عملياً فراغاً عربياً... ولم يلبث هذا الدور أن تعاظم مع الانتفاضة في فلسطين والهجران العربي لها إلا في حدود معينة، ما أتاح لإيران أن تحتل الحيز الأشد سطوعاً في المشهد العربي والإسلامي بظهورها منحازة الى قضية العرب والمسلمين الأولى والى الحد الذي استساغ معه رئيسها أحمدي نجاد أن يبشر بنهاية الكيان، لتأتي الحرب الأخيرة على لبنان وتشعر الجميع، إسرائيل والعرب والغرب، بأن السؤال عن مصير الكيان قد أصبح مطروحاً... قد لا تكون هذه قناعة شخصية لدي ولكنها قناعة سارية في أوساط عربية وإقليمية ودولية عدة. هنا نصل الى تسجيل الفارق الجوهري بين الأداء التركي والأداء الإيراني من دون ذم أو مدح... فأسباب الضعف في الموقع والدور التركي تعالج تركياً بالهدوء التركي - العربي والهدوء التركي - الغربي وبرسم نظام مصالح تركية مع الأطراف العربية يعطي العرب موقعاً مقبولاً في الحركة التركية ويعطي تركيا قوة في حراكها في فضاء القضايا العربية. وهكذا تبدو تركيا حالاً صاعدة، في حين أن أسباب القوة الإيرانية ربما تكون قد تسببت بوضع إيران من طريق فلسطينولبنان، في وجه الدول العربية، من دون أن يكون ذلك مؤثراً إيجابياً في قوة إيران في حوارها أو سجالها مع الغرب وأميركا على الملف النووي، ما اضطرها الى اللجوء الى الوسيط الفرنسي والتركي الذي لا يعوض النقص العربي في السياق الإيراني. هذا المسلك من شأنه أن يحول عوامل القوة العربية التي يمكن أن تستقوي بها إيران الى ضعف عربي وإيراني، ومن شأنه أن يحول عوامل القوة الإيرانية التي يمكن أن تستقوي بها الدول العربية الى ضعف إيراني وعربي في مواجهة إسرائيل وأميركا، ومن دون أن يكون التناغم السوري - الإيراني كافياً لأن يعوض عن هذه الخسائر المشتركة، لأن سورية مضطرة لأن تتعامل مع سياقات مختلفة ومتعارضة، وهذا من شأنه أن يجعلها محكومة بالسياق الغربي والأميركي أكثر من غيره، طبقاً للمسلك الذي سلكته من حرب الخليج الثانية ومشاركتها في تحرير الكويت، الى المسلك الذي تسلكه في العراق الآن ومنذ احتلاله ومن دون قطيعة مع الموجبات الأميركية، التي ما زالت ترى في أي بديل للنظام السوري خطراً مضاعفاً ومحققاً، وتتجاوز في سبيل تفادي الخطر كثيراً من المشاكسات السورية الهادفة، والتي توقفت عند حد مقبول على مدى شهر ونيف من الحرب على لبنان، عاشت فيه سورية حالاً من الطمأنينة الى سلامتها ومستقبلها. ما نريد قوله ونرغب في حصوله هو أن تعمد إيرانوتركيا والعرب... خصوصاً إيران والعرب، وبالأخص إيران والسعودية ومصر والأردن ولبنان الى مجموعة تفاهمات وعلى كل شيء، على لبنان السيد المستقل الموحد، دولة ومقاومة، حكومة ومعارضة، بحيث لا يعود الكلام فيه عن سلاح"حزب الله"وكأنه مشروع عقاب للحزب، وعلى الشراكة في التحرير مع الشعب اللبناني كله والدولة اللبنانية كلها... وهذا ربما كان من أحلام بعض المرضى في لبنان، والذين لا يرون في الرئيس فؤاد السنيورة، على رغم المديح الكاذب له، لا يرون فيه رجلاً أو حاكماً مؤهلاً لتحقيقه بسبب إصراره على تجنب الفتنة التي يستفيد منها الأشرار ويتضرر بها الأبرار في لبنان والمنطقة كلها. وهنا يأخذ العراق موقعه في بنية هذه التفاهمات التي أصبحت من ضرورات بقاء العراقولبنان دولة وكياناً... ومن ضرورات بقاء فلسطين قضية وشعباً وسلطة وطنية على طريق الاستقلال والسلام العادل الذي لا يتحقق إلا عندما يسود السلام والتفاهم بين المعنيين به وبأنفسهم ودولهم وشعوبهم من خلاله. هل يمكننا اعتبار سفر وزير الخارجية الإيراني الى القاهرة ولقائه الرئيس حسني مبارك قرعاً إيرانياً حقيقياً للأبواب العربية من أجل تفاهم عميق على القضايا المصيرية المشتركة والمصالح المشتركة؟ وإنه لتبسيط غير نافع أن يلح بعضنا من أهل الفطنة والتراث النضالي الوطني على حصر مشكلة لبنان في إيران، ما يتيح لمن يطربون ويفتنون بالأخطاء التي تدفع اليها توترات مفهومة ومبررة، أن يحيلوا وبسهولة الموقف الوطني الملتبس الى الموقف الأميركي المكشوف... وقد كانت التفاتة وليد جنبلاط وكلامه عن صمود المقاومة بشارة بموقف أشد تركيباً من السابق، ولعل قلة تصريحاته في الأيام الأخيرة تشير الى احتمال مقاربة أخرى للوضع في لبنان. كما انه تبسيط أن يفهم الإيراني ويقول سراً أو جهراً بأن المال الإيراني والسخاء الإيراني على لبنان بعد الدمار من شأنه أن يجعل لبنان شأناً إيرانياً حصرياً ما قد يغري المال العربي بالمنافسة على الخط نفسه. والمرتجى أو الحل هو الشراكة الإيرانية - العربية في إعادة الإعمار تحريراً للقرار اللبناني من خلال توحيده أو المساعدة على توحيده تحقيقاً لمصلحة الجميع وكرامة الجميع التي تمر بلبنان الذي يرتاح في الحضن العربي الإسلامي ويقلقه التجاذب والصراع. * كاتب لبناني.