بعد نحو أربعة عقود من الطفرة النفطية الأولى، وجدت دول مجلس التعاون الخليجي نفسها أمام واقع ديموغرافي ضاغط على كل مناحي الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، ولم يعد هناك مفر من مواجهة كرة الثلج التي تدحرجت لتحول مواطني أغلب دول المجلس، باستثناء المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان، إلى أقلية في بلدانهم، وفي بعض الأحيان إلى غرباء على الوطن الذي ولدوا وترعرعوا فيه أبا عن جد. تشير إحصائيات صندوق النقد الدولي إلى أن نسبة المواطنين في دولة الإمارات العربية المتحدة تقل عن 20% وفي قطر 30% وفي الكويت 44% وتصل في البحرين إلى 49%. وتشكل هذه النسب خطورة كبرى على الواقع الديموغرافي في دول المجلس في حال استمرار السياسة العمالية على ماهو عليه، إذ من المحتمل أن تقفز أعداد العمالة الوافدة من 17 مليون في الوقت الراهن إلى نحو ثلاثين مليون نسمة بعد ثماني سنوات، الأمر الذي سيضع مشروعات التنمية أمام تحديات وصعوبات القدرة على إنجاز البنى التحتية الأساسية في دول يزداد فيها عدد السكان بمعدلات تزيد عن ضعف المعدلات العالمية. الخطورة هنا تكمن في عدة جوانب. ففي الجانب المالي تحول العمالة الوافدة، والتي أغلبها من جنوب آسيا، أكثر من سبعين مليار دولار سنويا، تستحوذ المملكة العربية السعودية على النسبة الكبرى حيث تبلغ التحويلات المالية للعمالة الوافدة لديها أكثر من 27 مليار دولار تليها الإمارات بأكثر من 17 مليار دولار فالكويت بأكثر من 12 مليار دولار فعمان وقطر بأكثر من ستة مليارات دولار لكل منها ثم البحرين بنحو ملياري دولار سنويا. وتشير بعض التقديرات أن هذه الأرقام رسمية وأن التقديرات قد تضيف نسبة تحوم حوالي 10 – 20% على السبعين مليار دولار، ما يشكل عامل استنزاف إضافي للواقع المالي بدول مجلس التعاون الخليجي التي تواجه نسبة بطالة تتراوح ما بين 7% إلى 15%، ما يعني بروز تحديات كبرى لمواجهة البطالة المتزايدة في سوق مفتوح على الآخر للعمالة الوافدة. وتشكل التحويلات المالية من دول مجلس التعاون أكثر من 17% من إجمالي التحويلات في العالم، وهي تشكل أكثر من 53% بالنسبة للتحويلات الذاهبة إلى جنوب آسيا، ومن المتوقع حسب البنك الدولي أن تصل التحويلات المالية على مستوى العالم 515 مليار دولار بحلول العام 2014، مرجح أن تتلقى الدول النامية منها 441 مليار دولار، ما يعني تضاعف حجم التحويلات المالية من دول التعاون التي بلغت حجم التحويلات منها في العام 2000 لا تتجاوز 16 مليار دولار!! هذا الواقع يمارس ضغوطا كبيرة على فرص العمل الجديدة التي يتم اقتناصها من الوافدين الآسيويين الذين يدخلون في منافسة محسومة سلفا لصالحهم ضد المواطنين بسبب الأجور المتدنية، هذا أولا، ثم إن الواقع الاجتماعي قد تعرض إلى شروخات وتفتقات كبرى لم يعد من السهل تقطيبها بحلول آنية أو برغبات لا تلامس الواقع، ما يجعل موضوع وجود هذه العمالة وبهذه الكثافة المتزايدة تتحول من مساعد لعملية التنمية في الطفرة النفطية الأولى حيث ساهمت في البناء التحتي، إلى عبئ كبير يهدد الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي الذي مني باختلالات رئيسية بسبب «الصراع الحضاري بين المواطنين وملايين الوافدين من جنوب آسيا، وما ينتجه من تضافر أسباب الجريمة والتشوه الاجتماعي في بلدان أصبحت بحاجة إلى عدة لغات لكي تتفاهم مع سكانها، بخلاف لو كان خيار جلب العمالة من الدول العربية التي تشترك مع دول التعاون في الكثير من العادات والتقاليد وأهمها اللغة والدين والثقافة والتاريخ المشترك. ثم إن هذه المعطيات لا تساعد المرأة التي تشكل نصف المجتمع من دخول المنافسة في العمل، حيث تشكل من العمالة المواطنة ما نسبته 38.6% في الكويت، كأعلى نسبة في دول المجلس تليها البحرين بنسبة 31%، فقطر بنسبة 26% فالمملكة العربية السعودية بنسبة 14.4%. هذا الاختلال الديموغرافي لا يؤثر فقط على التحويلات المالية للخارج التي تستنزف الأموال المحلية فحسب، بل إن خطورته تتجاوز هذا الجانب وتتجاوز أيضا أزمات البطالة المستفحلة في دول التعاون، لتصل إلى التهديد الحقيقي لكيانات مجلس التعاون إذا ما نفذت الضغوط الدولية التي تطالب بتوطين العمالة الوافدة ومنحها نفس حقوق العمالة المواطنة، وهو الأمر الذي يجعل من نتائج أي انتخابات تصب في صالح الأغلبية الوافدة غير العربية على حساب المواطنين، وهذه ضغوطات تمارسها المنظمات الدولية والدول الكبرى، خصوصا وأن معايير العمل الدولية تتضمن مساواة العمالة الوافدة بالعمالة المحلية.. وهي عناصر ضغط فوق كل الضغوطات الأخرى، الأمر الذي يفرض من صناع القرار في دول مجلس التعاون الخليجي ضرورة الشروع الجدي في إعادة هيكلة طبيعة العمالة التي تعتمد عليها والتحول من العمالة الرخيصة إلى التكنولوجيا التي تتطلب عمالة متعلمة تقدم قيم مضافة للاقتصاد وتحفظ هوية الوطن وتعزز الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي.