رغم انقضاء الجزء الأكبر من شهر رمضان المبارك الذي شهدت أيامه الأولى انطلاقات صاروخية في أسعار كثير من المواد الغذائية، إلا أن هذه الأسعار لا تزال محلقة في العلالي تقاوم جاذبية تراجع الهجوم الشرائي الذي اكتسح الأسواق في بداية الشهر الفضيل، حيث أبى هلاله هذا العام أن يكشف عن وجهه البهي، وفضل التحجب بوشاح من الغيم الغباري الخانق والمحلق بسماء الجزيرة برفقة هذه الأسعار التي انطلقت عالياً على متن صواريخ تجار الغذاء، مشكلين مع لهيب شهر يوليو مثلثاً «برمودياً» من فواتير الغذاء والدواء والكهرباء، يبتلع دخول الآلاف من الأسر السعودية التي لم تستطع الإفلات من قبضة هذا الحصار الثلاثي. صحيح أن لرمضان خاصيته في تفاقم قضم دخول هذه الأسر، إلا أن الارتفاعات المستمرة لأسعار معظم مقومات حياتنا تحول دون أي تحسن في مستوى حياة الأغلبية من المواطنين، فدخل الفرد ينخفض، ونسبة الفقر تزداد. وهذا ما دفع عدداً من الناشطين الاجتماعيين القلقين من هذه الحال لإطلاق هاشتاق بعنوان «الراتب ما يكفي الحاجة»، الذي انتشر بين التوتريين كالنار في الهشيم، فتجاوزت التغريدات فيه آلافاً ، كلها تشدو بالفكرة وتدعمها بحقائق وأرقام بيّنة، مبرهنة على عجز المداخيل في مواجهة متطلبات الحياة والزيادات المتوالية في تكاليف المعيشة، ومن ضمنها أسعار المواد الغدائية. إن تعديل الدخول المنخفضة لشرائح اجتماعية معينة من المواطنين لا يعد قراراً اقتصادياً مجردا، بل هو أيضاً قرار سياسي. يفترض عدم النظر إليه من زاوية رغبة الناس في زيادة مداخيلهم لتلبية رغباتهم الاستهلاكية فقط، بل يجب التعامل معه من مدخل محاربة الفقر أولا، ورفاهية الأغلبية من الناس ثانياً. ولذا فإن عدم تطبيق آلية واقعية ومتجددة لتقييم القدرة الشرائية للريال وربط ذلك بمعدل الأجور، والالتزام بشكل مباشر وصريح بحد أدنى للأجور في جميع القطاعات والحقول الاقتصادية، يعد أمراً معيقاً أمام أية محاولة لرفع المستوى المعاشي للأغلبية الساحقة من المواطنين السعوديين، ويجعل من الإجراءات الترقيعية أو القرارات المستعجلة التي تتم بين حين وآخر لزيادة الرواتب والأجور ومعاشات التقاعد عاجزة عن تقديم حلول طويلة المدى لهذه المشكلة التي يقبع في شباكها ملايين المواطنين. نحن بلد يعتمد في غذائه على الخارج، فما نزرعه محلياً ونأكله لا يشكل إلا نسبة بسيطة مما نستهلكه، وهذه معادلة مع الأسف ليس بالإمكان تغييرها ما لم يغير الله مناخنا، وقدرنا أن نعيش في أرض كتب عليها أن تشغل الصحراء معظم مساحتها، وهو ما سيجعلنا مستهلكين، ولسنا منتجين لمعظم ما نأكله ليس فقط على المدى القريب بل والبعيد أيضاً. إن ترك أسعار معظم المواد الغذائية القادمة من الخارج في قبضة أيدي حفنة من المستوردين، وتحت رقابة هشة من جهات الاختصاص يشكل تهديداً مستمراً للمساعي الهادفة للتصدي لعدم كفاية الأجور في تلبية حاجة المواطنين. لقد جاء تأكيد مجلس الوزراء في جلسته قبل أسبوعين على ضرورة تعزيز جهود الأجهزة الحكومية في مجال الرقابة والإشراف على أسعار السلع والخدمات ومنع احتكار أسعارها، كمؤشر على أن الأسواق حينما تترك دون رقابة حقيقية ومتعددة فإن من سيتحكم فيها هم المستوردون الكبار الذين تحركهم مصالحهم دون اعتبار لمصالح المواطن البسيط. ويكتسب تأكيد المجلس على حق المواطن في الحصول على تفاصيل المعلومات حول أسعار المواد الغذائية في البلدان المصدرة و المجاورة لنا، أهميته في التصدي لجشع التجار والمحتكرين، وهو ما يقتضي وجود وتوفير الأدوات والقنوات الرسمية التي تتيح سهولة الوصول لهذه المعلومات من قبل المواطنين، والسماح لهم بتأسيس جمعياتهم المدنية لحماية المستهلك «غير تابعة لوزارة التجارة» قادرة على متابعة هذه المعلومة وتحليلها وممارسة رقابتها المستقلة.