تجربة القراءة حياة أخرى بالنسبة لي، لا تشبهها سوى حياة الظلال التي تلازم الأشجار حتى الغروب. الأشجار تشبه الكتب التي أقرؤها. عندما أدخل الغابة لا أتخير شجرة بعينها، هي أبنائي كلما التصقت الظلال بها حد التلاشي في جذورها المطمرة. نعم.. هي حياة أخرى تنام على وهم الأفكار وتصحو على متناقضاتها، وما بينهما تكون أحلامها مازالت ممسكة بحبل الكتب. لذلك لا أتبين الطريق وسط الغابة، لأن إحساسي بالقراءة مشغول بنفسه حد الضياع، فلا أعرف أن أكون عصفورا ينقّل عشه بين رؤوس الأشجار، أو نهرا يأخذه الوله إلى الجذور، فلا يدل طريقه إلى المصب أبدا.ربما «التيه» هي الكلمة الأنسب حين أصف تجربتي في القراءة. لأن متعة القراءة ولذتها كما يقال سرعان ما تتحول عندي إلى شعور متصل بمتاهة كبرى، أظنه شعوراً تراجيدياً مرتبطاً أساساً بالخيبة الكبرى التي أحس بها كلما جلت ببصري في عالم الكتب، وارتدّ عليّ كأنه يقول لي من أين تأتي بحياة أخرى لتقرأ كل هذا الكم المتراكم من الكتب؟!إذا الحياة الأخرى التي أدعيها ليست سوى وهم آخر أضيفه في حسابي إلى أوهامي الأخرى التي أعيشها في حياتي اليومية.أقول هذا الكلام كي أعطي مبرراً لي وللقارئ الكريم، لا لأتحدث عن بعض الكتب التي قرأتها في العام الفائت، واستعرض ما قالته بشكل موضوعي وجامد.بل أريد من انطباعاتي حول ما أقرأ تنهل من الأثر الذي تركته أفكار هذا الكتاب أو ذاك على قناعاتي ونظرتي. وبالتالي أريد من القارئ أن يشعر بهذا الأثر معي قبل أن يتلمسه بأفكاره.أليست تجربة القراءة مشاركة وحواراً قبل أن تكون رأيا محدداً وفكرة قاطعة؟! ضمن هذا المنظور سأختار كتابين قرأتهما مؤخرا: الأول كتاب جورج طرابيشي «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث» إصدار دار الساقي2010، والآخر هو للمفكر الفرنسي البلغاري الأصل تزفيتان تدوروف «الخوف من البرابرة- ما وراء صدام الحضارات» إصدار مشروع كلمة 2009. قرأت كتاب جورج طرابيشي كما لو أني لم أقرأ له كتابا من قبل.تعرفت على كتاباته على وقع سجالاته مع المفكر المغربي محمد الجابري في مشروعه «نقد العقل العربي».كنت حينها أهجس بفكرة تملكتني وأنا أتابع بإعجاب المثابرة التي تمتلك روح باحث يتتبع بخفة ورشاقة سقطات وزلات مفكر كبير كالجابري.هذه الفكرة تقول لماذا لم يكن لطرابيشي مشروع مستقل بعيد عن مشروع الجابري؟ كنت أظن واهما أن اشتغال الفكر النقدي بهذه الطريقة يدخل في سياق السجال الذي لا طائل من ورائه سوى تحويل الفكر نفسه من التركيز على الظواهر والأفكار إلى شخصنتها بكل ما تدل عليه الكلمة من معنى.أدركت لاحقا أن فقر الفكر العربي لمثل هذا الاشتباك النقدي هو الذي يجعل مثل هذه الظواهر غريبة على تفكيرنا ورؤيتنا للاشتغال النقدي.هذا الإدراك ارتفع منسوبه عاليا وأنا أقرأ كتاب طرابيشي هذا. والسبب هو أن الكتاب يعتبر تجاوزاً حقيقياً لمشروع الجابري، هو بناء قائم على أنقاض بناء آخر. لم يكتف بالتفكيك كما في المرات السابقة، بل بناء الرؤية هو الذي شيده باحترافية كبيرة. هذه الرؤية توجه بوصلتها إلى التمييز بين إسلام أهل الحديث وآخر هو إسلام القرآن، حيث نكتشف مع نهاية الكتاب أن إسلام القرآن قد خفت بريقه شيئا فشيئا تحت سلطة إسلام الحديث. فك الارتباط بينهما هو ما يدعو الكتاب إلى ممارسته نقديا. ويقترحه في مسار النظرية النقدية العربية. لكن فك الارتباط مساره بطيء في إحداث تغييرات في حياة المجتمعات الثقافية والروحية، والإسراع في وتيرة إيقاعه مرتبط بالضرورة بجملة من العوامل أهمها الإرادة السياسية بوصفها إرادة إذا ما تحققت شروطها من مشروعات تنموية تتعلق بالتعليم والصحة والاستثمار في القيمة العليا للمجتمع وهو الإنسان، يكون التغيير أكثر فاعلية بينما هناك من الكتاب من يتغافل عن هذا المسار ويرى أن تفكيك التحالف الديني بالسياسي هو المسار الأجدر بالنقد، وهذا يعني بالنسبة لهم تفكيك المعتقدات الكبرى وما يتبعها من طقوس. وهذا أمر يصعب تطبيقه حاليا. أما المفكر تدوروف هو من أكثر النماذج المعبرة عن ذلك المثقف الغربي بهموم مجتمعه وتطوراته الثقافية وقضاياه الفكرية والسياسية. هذا ما تدل عليه سيرة حياته الفكرية والغنية بالأفكار والتحولات. لم يحبس نفسه في النظرية، وأسوار الرؤية الأكاديمية الجامدة. كتابه هذا يشي بوضوح على ما نقول.مقاربة المصطلحات والمفاهيم، ومحاولة إعادة قراءتها في ضوء مسارها التاريخي بجميع أبعاده، هي المهمة التي يقوم بها تدوروف في هذا الكتاب، بل حتى في جميع كتبه الأخرى.أهمية هذا المنحى بالنسبة له هو مقاومة الفكر الجاد لتخفيف -حتى لا أقول لإيقاف- حدة التوظيف لمفاهيم من قبيل: الإرهاب والبربرية والاستبداد والديمقراطية سياسيا لصالح أجندات، لا هم لها سوى إثارة الصراعات الدينية والنزاعات العرقية بين شعوب العالم. إنها وظيفة الفكر النقدي في عالم اليوم كما يمارسها تدوروف. ولكن هل بمقدور الفكر أن يمد جسوره إلى الضفة الأخرى؟