القاهرة – هيثم محمد عمران: الثورة لم تحقَّق شيئاً من أهدافها بعد.. ولا يوجد مكاسب لها إلا كسر حالة الخوف. طالب: أنا لم أعد أخاف.. هم الذين يجب أن يخافوا منا. عبدالعليم: التغلُّب على الخوف هو أساس لفكرة بناء الإنسان وبناء الدولة. كمال: ميدان التحرير سيشكل هاجساً مضاداً في تفكير الحكومات القادمة. عامان على الثورة في مصر، ولايزال المصريون يبحثون عن «عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية»، وهي نفس محتوى الشعارات التي رفعوها في ميدان التحرير ومختلف المدن المصرية وإن اقترنت بمزيد من شعارات القصاص. عامان من الثورة لم تكن كافية لتغيير واقع حياة ملايين المصريين الذين انتفضوا لتغيير واقعهم الحالك الذي لايزال في نظر كثيرين لم يتغير. عامان شهدا عاماً ونيفاً من حكم مجلس عسكري من رفقاء مبارك، ثم أشهراً من حكم رئيس إسلامي منتخب لم ترض طموحات الثورة خاصة مع انتهاجه نفس أدوات وأساليب حكم سلفه الذي ثارت الجموع عليه. عامان من الثورة والاضطراب والغضب والطموح وكثير أيضا من العنف والدماء والنحيب. عامان سقطت فيهما هيبة السياسة وربما الدولة مع تهاوي جدار الخوف رفقة ضحايا شباب بل وأطفال، رسم زملاؤهم من مجموعات الألتراس أساميهم وحكاويهم على الجدران في رسومات تسمى جرافيتي، مثّلت صرخة عالية على واقع لا يريد أن يتغير ربما أبدا. وسط تظاهرة كبيرة وضخمة، وقفت متظاهرة شابة بكل جراءة تحمل لافتة كبيرة كتب عليها «والله العظيم مبقناش بنخاف»، وذلك أمام حشد ضخم من عساكر الأمن المركزي.. وتعكس رسالة الفتاة انهيار جدار الخوف داخل نفوس وعقول المصريين بعد سنتين من الثورة. ورغم تعدد مظاهر وهواجس الخوف لدى المصريين على المستوى الاجتماعي والنفسي والشعبي، إلا إن الخوف من السياسة ظل هو الأخطر على مدار عقود طويلة من تاريخهم، ولم تفلح احتجاجات ومظاهرات قاموا بها بين الحين والآخر في كسر جدار هذا الخوف، الذي تحول إلى «تابو»، وخط أحمر، يعرِّض من يحاول اقتحامه لعواقب قد لا تحمد عقباها، من التشريد والنفي والزج في السجون، وهو ما حاولت كل الأنظمة المتعاقبة على مصر على مدار الستين عاماً الماضية ترسيخه في نفوس وعقول المصريين ليلاً ونهاراً. لكن جدار الخوف الذي تحطم تماماً اليوم تحت أقدام المتظاهرين المصريين، فتح أبواباً جديدة للحرية لم تكن حتى في خيال البعض قبل شهور قليلة، أبرزها حرية انتقاد رئيس الجمهورية دون خوف. الابتعاد عن السياسة جدار الخوف المتلاشي هذا يعكس ما يزيد على ستين عاماً، عانى خلالها المصريون من هاجس الحديث في موضوعات شائكة تحولت لتابوهات محرمة في العقلية المصرية شملت كل ما يتعلق بالدين، والجنس، والأهم والأخطر السياسة، ومع تنكيل نظام جمال عبدالناصر بمعارضيه إبان مرحلة الستينيات، وشيوع قصص تعذيب المعتقلين واختفاء المعارضين، هجر المصريون المشاركة في الجدل السياسي المتعلق بشؤون بلادهم، واعتبرت الأجيال المتعاقبة السياسة مجالاً محرماً لا يجب التناقش فيه، خاصة في الجلسات العامة أو أمام أشخاص غرباء، وتداول المصريون جيلاً بعد جيل جملة «أنا ما بتكلمش في السياسة» كتكريس واضح وصريح لحالة الخوف من كل ما يتعلق بالسياسة. ثورة يناير ومع قيام ثورة 25 يناير، كسر المصريون عقوداً طويلة من الخوف، تناثرت في خلفيتها محاولات شعبية لتحطيم هذا الحاجز الصلد في يومي 17 و18 يناير 1977، حيث عمت المظاهرات ضد غلاء الأسعار التي طالت رغيف الخبز كل ربوع مصر، وشهدت الشوارع والميادين صدامات عنيفة مع أجهزة الأمن التي فشلت في السيطرة على الأوضاع في البلاد، ولم تهدأ الأمور إلا بعد نزول الجيش للشارع. هذا المشهد لم يكن بعيداً عن مناخ ثورة 25 يناير، خاصة بعد انسحاب الشرطة المصرية من الشوارع عشية إحراق أقسام الشرطة، وكان اعتصام مئات الآلاف في ميدان التحرير نقطة الفصل في كسر حالة الخوف لدى المصريين وتحدي السلطة الحاكمة. ولم يكن غريباً ولا شاذاً اقتحام مئات المصريين مقرات أمن الدولة، التي طالما ذاق آلاف المصريين فيها أصنافاً من العذاب والتنكيل، والسبب ببساطة، لأن المقتحمين وأغلبهم من الشباب كانوا قد حطموا قيود الخوف التي بداخلهم. وبعد عامين من الثورة، أصبحت السياسة مادة خصبة للنقاش لدى المصريين، بعد أن تلاشت تابوهاتها من مفردات قاموسهم اليومي، الأدهى أن الخوف من التعبير عن الآراء السياسية تلاشى في كل الاتجاهات.. فأنصار الثورة لهم ميدان التحرير يجددون فيه ولاءهم الثوري، وتصدح جوانبه بشعاراتهم الثورية القوية الرافضة للنظام السابق بكل رموزه، وأنصار النظام السابق ورئيسه مبارك لم يتحولوا لفئة مكبوتة الرأي السياسي، بل اتخذوا من ميدان روكسي في ضاحية مصر الجديدة مقراً لهم، لمناصرة الرئيس السابق، قبل أن يتجمع أنصار المجلس العسكري في ميدان العباسية للإعلان عن رأيهم السياسي في مستقبل بلادهم دون خشية أو خوف. مكسب من مكاسب الثورة إنشاد عز الدين عمران، أستاذة علم الاجتماع العائلي والمشكلات الاجتماعية في جامعة المنوفية، ترى أن كسر حالة الخوف هو أكبر مكسب من مكاسب الثورة حتى هذه اللحظة، وقالت إنشاد ل «الشرق»: إن «الثورة لم تحقق شيئاً من أهدافها بعد، لا يوجد مكاسب لها إلا كسر حالة الخوف من القمع والبطش الذي سيطر على المصريين لعقود»، وفسرت إنشاد الخروج من حالة الخوف الشديدة لدى المصريين، بأنه نوع من أنواع إثبات الوجود والسعي لنفي الاتهامات الموجهة للشباب بالسلبية واللامبالاة. وتعتقد إنشاد أن تلك الحالة الفريدة من كسر قيود السلوك والفكر لدى المصريين لن تعود أدراجها، قائلة «من المستحيل أن تعود عقارب الساعة للوراء الآن.. فالتغيير الذي حدث للشعب المصري سيظل قائماً لفترات طويلة». وهو ما برهنت عليه بقولها «قبل الثورة لم يكن المصريين يعترضون على القرارات الحكومية التي تأتي في غير صالحهم… لكنهم الآن يعترضون على أي حديث أو تصريح لا يروق لهم.. هذا نتيجة مباشرة لثورة 25 يناير» مضيفة إن الناس لم تعد تخشى انتقاد المسؤولين أو الاعتراض عليهم. انهيار منظومة الخوف ويقول الكاتب أحمد عبدالعليم، وهو باحث سياسي توقع حدوث الثورة في أولى كتبه، ل «الشرق»: إن «الثورة المصرية في الأساس كانت تجسيداً لانهيار منظومة الخوف بفكرة الخروج على الديكتاتور المتسلط الظالم وهو في أوج قوته، لكن أعتقد أن الإشكالية مرتبطة بفكرة «الحدود والوجود»، وأضاف عبد العليم «أي إن المصريين نجحوا في أن يتخلصوا من منظومة الخوف في حدود معينة، دون أن يعني ذلك القضاء تماماً عليها». ويعتقد عبدالعليم أن الخوف مازال موجوداً لكن بشكل أقل حدة، وقال عبدالعليم إن «التغلُّب على الخوف هو أساس لفكرة بناء الإنسان وبناء الدولة، لأنه لا يستطيع إنسان ضعيف أن يبني دولة قوية». الشعب خرج من قمقمه وأعقب سقوط نظام مبارك ذيوع المظاهرات الفئوية في مختلف القطاعات في البلاد، حيث تجمهر وتظاهر آلاف الموظفين والعمال في محافظات الجمهورية للمطالبة بالتعيين في وظائفهم، أو للاعتراض على مرتباتهم المتدنية، أو للحصول على امتيازات خاصة بوظائفهم. وبطول البلاد وعرضها، قطع مصريون غاضبون أشرطة السكك الحديدية احتجاجاً في مناسبات عدة وهو ما لم يكن أمراً شائعاً قبل ذلك، لكنه يعكس أن المصريين أصبحوا أكثر تحرراً من خوفهم من السلطات. وهو ما فسره خبراء علم نفس واجتماع، بأن الشعب المصري خرج من قمقمه الذي حبس فيه لعقود، وأن المصريين كسروا حواجز نفسية من الخوف منعتهم من الشكوى والاعتراض على أوضاعهم المتردية عبر سنين. الفاتورة الأولية لكسر حاجز الخوف في ثورة 25 يناير كلفت المصريين نحو 850 قتيلاً، وإصابة نحو ألف آخرين في مختلف المحافظات المصرية في بداية الثورة، بعدما فتحت الشرطة النار على المتظاهرين السلميين لقمعهم. لكن العدد الكبير من الضحايا لم يمنع المتظاهرين المصريين من النزول للشوارع مجدداً والتظاهر ضد سياسات المجلس العسكري ومن بعده جماعة الإخوان المسلمين كلما تطلب الأمر ذلك.. وهو ما حدث في أحداث السفارة الإسرائيلية في مايو وسبتمبر، ثم تظاهرات المسيحيين في أكتوبر 2011. المسمار الأخير في نعش الخوف وكانت أحداث شارع محمد محمود المسمار الأخير والنهائي في نعش «الخوف» لدى المصريين، بعد أن شارك آلاف المدنيين العزل في مواجهات عنيفة بين المتظاهرين وقوات الأمن من الشرطة المدنية والعسكرية، أدت إلى سقوط قتلى وجرحى مجدداً وصل عددهم لنحو 42 قتيلاً.. وهو ما تجدد بعدها بشهر في منتصف ديسمبر في أحداث شارع محمد محمود وقصر العيني التي خلفت نحو 18 قتيلاً، وإصابة المئات، ثم تكررت الاشتباكات بشكل عنيف أمام وزارة الداخلية المصرية في فبراير ليسقط 19 آخرون، وهو ما تجدد بشكل روتيني وشجاع للغاية من الشباب، على مدار عام 2012 وحتى إحياء ذكرى محمد محمود في نوفمبر 2012. وفي كل الحالات، ورغم استخدام الأمن للرصاص الحي والخرطوش، إلا إن ذلك لم يجعل الشباب ينسحب من المواجهة، بالعكس فإن المتظاهرين الشباب استعدوا جيداً للمواجهات، حيث ارتدى المتظاهرون في الصفوف الأولى حينها أقنعة واقية للأعين من شظايا الخرطوش المتطاير، كما أعدوا خمائر مجهزة لمواجهة الغازات المسيلة للدموع. جدار سميك من التحدي ورغم أن الأسهل دوماً كان الانسحاب من المواجهة.. لكن شباب ثورة 25 يناير رفضوا تماماً هذا الخيار، ببساطة لأن حاجز الخوف داخلهم انكسر، وشب مكانه جدار سميك من التحدي لكل الممارسات الأمنية حتى لو كانت نتيجتها الموت قتلاً، وهو ما علقت عليه إنشاد بقولها «لسان حال الشباب الآن يقول ما الذي سيصيبنا أكثر مما أصاب أهلنا عبر 30 عاماً من الخوف؟» معتبرة أن شجاعة الشباب تلعب دوراً كبيراً في تشجيع بقية المصريين على مواصلة الثورة. اللافت، أن مراسل قناة CNN الإخبارية في القاهرة، علق على إقدام الشباب المصري في المواجهات مع قوات الأمن في محمد محمود في نوفمبر 2011 قائلا «الشباب في مصر لا يخافون أن يصابوا بالرصاص في المظاهرات، لكن يخافون أن يقولوا لأهلهم إنهم ذاهبون للتظاهر»، وهو ما اعتبره آلاف الشباب سمة جديدة في شخصيتهم التي أصبحت لا تخاف الموت قتلاً بالرصاص، وإن كانت تخشى مصارحة الأهل بالذهاب إلى ميدان التحرير للتظاهر. مشاركة المرأة انهيار منظومة الخوف فتح باب المشاركة السياسية الغاضبة لتظاهرات متعددة للمرأة المصرية، شاركت فيها عشرات الآلاف من المصريات في مناسبات عدة، سواء احتجاجاً على تعرية وضرب فتاة في التحرير، أو للاعتراض على الدستور المصري، الذي صاغته جمعية تأسيسية سيطر عليها التيار الإسلامي. الأمر تعدى النساء لتظاهرات الطلاب في فبراير 2012، ومطالبة الشباب أقل من 16 عاماً بحق الانتخاب في الاستحقاقات الانتخابية. ويعتبر الحقوقي محسن كمال، نائب المدير التنفيذي لمركز الأندلس لدراسات التسامح ومناهضة العنف، أن ميدان التحرير سيشكل هاجساً مضاداً في تفكير الحكومات القادمة، بأن المصريين سيلجأون إليه للتظاهر والاعتراض حال تم قمعهم بنفس الأسلوب القديم مجدداً، وأضاف كمال ل «الشرق: «المصريون جربوا الثورة، وأنهوا عقوداً من الخوف، وبالتالي فإنهم مستعدون للنزول للشارع مجدداً متى اقتضت الضرورة ذلك دون خوف من قمع أو قتل». ويعطي تخلص المصريين من الخوف الذي عشش لسنين في نفوسهم وعقولهم، الفرصة لتجدد الغضب داخلهم متى ضاقت حلقات السلطة حول مفاصل حياتهم أو انتهكت حرياتهم وكرامتهم مجدداً. ارتفاع سقف الحريات ولا يتوقف انهيار جدار الخوف عند المواجهات مع الأمن في مصر، فانهيار جدار الخوف خلق سقفاً جديداً لحرية الرأي والتعبير في مصر لم يستثنِ رئيس الجمهورية أو كبار المسؤولين. ويتعرض كبار المسؤولين في مصر وعلى رأسهم الرئيس المصري محمد مرسي المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين، ومن قبله المشير طنطاوي رئيس المجلس العسكري الذي حكم البلاد بعيد الثورة، لانتقادات علنية من المواطنين والإعلاميين، تتخطى سقف الانتقادات المسموح به أثناء حكم الرئيس المصري السابق حسني مبارك بمراحل. وتشهد التظاهرات الغاضبة المعارضة للرئيس المصري هتافات مدوية مناوئة له، كما رسم المتظاهرون رسائل غاضبة له على سور القصر الرئاسي في مطلع ديسمبر الماضي، دون أي خوف من أي ملاحقة رغم وجود الحرس الجمهوري في محيط المكان.وتنتشر الكتابات المعارضة لمرسي وجماعة الإخوان المسلمين في مختلف الشوارع المصرية. الأكثر دلالة، أن المتظاهرين متى وضع أمامهم أي جدار إسمنتي خلال التظاهرات، فإنهم يحطمونه خلال أيام قليلة، وهو ما تكرر مرات عدة. هم الذين يجب أن يخافوا ويقول محمود محمد، «18 عاماً- طالب» ل «الشرق»: «أنا لم أعد أخاف.. هم الذين يجب أن يخافوا منا»، وأضاف، بينما كان يهتف ضد الرئيس المصري، «لي أصدقاء قتلوا في أحداث العنف.. والحقيقة أنني لم أعد أخاف الموت على الإطلاق». ويقول مصطفى مرزوق «34 عاماً- سائق تاكسي» ل «الشرق»: «في السابق كنت أتعامل مع الشرطة بخوف.. كنت أهابهم وأخشاهم، لكن هذا كله تغير الآن»، وأضاف مرزوق «الخوف الذي تربينا عليه انهار داخلنا». ويقول أيمن ناجي «28 عاماً» الذي ينشط كمنسق عام لحملة «ضد التحرش» ل «الشرق»: «انهيار جدار الخوف جعل الشباب أكثر قدرة على التفكير في قضايا كبيرة ومهمة لم يكن من الممكن التفكير فيها قبل الثورة»، وتابع «أعتقد أن حملات مكافحة التحرش استفادت كثيراً من انهيار الخوف داخل الشباب وإيمانهم بقدرتهم على مواجهة ظاهرة مثل التحرش» ويعتقد ناجي أن انهيار الخوف أثَّر إيجاباً على حرية الحركة وحرية إبداء الرأي لملايين الشباب. ويقول محللون سياسيون: إن حالة الشجاعة السياسية التي صاحبت كسر المصريين لهاجس الخوف، ستمثل أكبر ضمانة لعدم خضوع المصريين لأي تسلط أو قمع من الحكومات المصرية القادمة. ملصق يعبر عن معارضة الشباب للرئيس مرسي (الشرق) شابة مصرية تحمل شعاراً