في حوار شهير للرئيس السوري بشار الأسد مع صحيفة «وول ستريت جورنال» في 31 كانون الثاني (يناير) الفائت، اعتبر أن سورية محصنة وبعيدة ممّا شهدته دول أخرى في المنطقة مثل تونس ومصر «بسبب قرب الحكومة السورية من الشعب ومصالحه» على حد تعبيره. في الحقيقة، إن الكثير من الأنظمة العربية حاججت بعدم وصول الاحتجاجات إليها بسبب اختلاف الظروف أو ما تسميه الخصوصية، كما ادعى وزير الخارجية المصري احمد أبو الغيط قبل بدء الثورة المصرية، على رغم أن المشترك بين هذه الأنظمة هو أكثر بكثير مما تختلف فيه، فهي تشترك في هيكل النظام التسلطي، كما تشترك في إهانة الكرامة الإنسانية لمواطنيها عبر التعذيب والقتل خارج نطاق القضاء والقانون. عندما بدأت المنظمة النقابية البولندية «تضامن» في كانون الأول (ديسمبر) 1988 في تنظيم الاحتجاجات السلمية بهدف إجبار الحزب الشيوعي الحاكم في حينه على احترام حقوق الإنسان وفتح المجال للحريات السياسية وعلى رأسها حق التعبير والتجمع، لم يكن أحد يتوقع انها ستستطيع بقيادة ليش فاليسا إجبار الحزب الحاكم على الاعتراف بها في شباط (فبراير) 1989. كان تشاوشيسكو في رومانيا يقول ايضاً إن بلده رومانيا لن تتأثر بموجة الاحتجاجات تلك، فبولندا وتشيكوسلوفاكيا مختلفتان تماماً عن رومانيا، فبولندا كاثوليكية أما رومانيا فكنيستها أرثوذكسية، وكان البابا يوحنا بولس الثاني يضغط حينها بقوة من أجل حرية التدين في بلده بولندا الذي حظي بتركيز كبير أكثر من غيره من دول أوروبا الشرقية، كما كان تشاوشيسكو يزيد أن رومانيا هي البلد الوحيد الذي ليست فيه قوات سوفياتية من دول الكتلة الاشتراكية، فضلاً عن أنه كان يفاخر بقدرة الأجهزة الاستخبارية الرومانية على قمع أي بوادر انشقاق أو معارضة. لقد تأخر التحول في الوصول إلى رومانيا حتى كانون الاول 1989، لكنه أتى في النهاية على شكل «ثورة» كما يحب الرومانيون تسميتها، وأتى أكثر دموية حتى انتهى بإعدام تشاوشيسكو وزوجته. صحيح أن الأجهزة الأمنية السورية هي الأشد مقارنة بمصر أو تونس أو اليمن، لكن ذلك يعد عاملاً محرضاً إضافياً للاحتجاجات. وفي سورية يجتمع الفشل السياسي مع إخفاق اقتصادي، فهي لم تحقق، لا الخبز ولا الحرية على حد تعبير الصحافي البريطاني آلان جورج، وفوق ذلك هناك قصص الفساد التي توجه فيها الاتهامات الى رجال اعمال يتحالفون مع الأجهزة الأمنية من أجل بناء ثرواتهم التي تظهر حجم الهوة بين طبقة تزداد ثراءً ومجتمع يزداد فقراً، فهناك 30 في المئة من السوريين تحت خط الفقر وفق الاحصاءات الرسمية، ما يجعل العوامل التي تدفع الى الغضب في سورية شبيهة تماماً بما جرى في تونس. ما يؤخر ذلك في سورية هو الخوف في شكل رئيس. لكن نجاح الشباب في مدينة درعا الجنوبية في كسر حاجز الخوف والخروج بالعشرات في تظاهرات تطالب بالحرية، كما أن استمرارها وتمددها إلى مدن أخرى كبانياس ودير الزور وحمص، ثم خروج تظاهرات صغيرة لكن ذات دلالة في العاصمة دمشق وقمعها داخل المسجد الأموي، أمور تدل على أن تصميم الشباب السوري على استكمال ثورته يتصف بالصمود، ولا يمكن قمع هذا الأمل على رغم توسع الاعتقالات في أكثر من مدينة وسقوط شهداء في مدينة درعا بينهم أطفال بسبب الاستخدام المفرط للعنف في تفريق المتظاهرين واستخدام الرصاص الحي، كما أثبتت أكثر من منظمة حقوقية. وكما بدا واضحاً في ثورات مصر وتونس واليمن، فإن القتل لا يردع بقدر ما يؤجج ويحرّض الآخرين على كسر جدار الخوف والصمت عندما يرون أن آخرين ضحوا بأرواحهم من أجل حريتهم. وغالباً ما يؤجج رد فعل السلطات الأمنية الاحتجاجات، فهي اعتادت على التعامل مع هذه المطالب والتظاهرات وفق السياسة الأمنية ذاتها، واتهام من قاموا بها بأنهم «مندسون» كما هو التعبير الرسمي السوري، مما يزيد من الغضب لدى الشباب الثائر على السلطة. وإذا قمنا بتحليل الشعارات التي استخدمت في التظاهرات السورية وفي أكثر من مدينة، نجد قدرةً فائقة من الشباب السوري على إدراك طبيعة السلطة الحاكمة وإبطال تأثير مفعولها السياسي والإعلامي، فالنظام السوري يستخدم لغة التخوين ضد كل معارضيه أو المنشقين عنه عبر وصفهم بالعمالة لإسرائيل أو الولاياتالمتحدة وما إلى ذلك، فكان رد الشباب السوري عبر شعار «الخاين يللي بيقتل شعبو» باللهجة المحلية. كما أن الإعلام الرسمي وصف من قاموا بالتظاهرات في دمشق ودرعا وبانياس وغيرها من المدن السورية بأنهم «مندسون» فأطلق الشباب السوري مجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي («الفايسبوك» و «التويتر» تقول «أنا مندس/ة»)، وبالتأكيد فإن مثل هذه التكتيكات من شأنها أن تبطل التأثير الإعلامي والسياسي الرسمي. ولا بد من أن نشير إلى أن بداية الاحتجاجات الشعبية من درعا، هذه المحافظة الجنوبية، تحمل أكثر من دلالة، وتعطي مؤشراً على صمود الشباب الثائر حتى تتحقق كل مطالبه، فدرعا محافظة تعرضت كغيرها من المحافظات الحدودية إلى تهميش وإهمال كامل للبنى التحتية كما يعاني أبناؤها من تدني مستوى الرعاية الصحية والتعليمية، ولذلك يمتلك شبابها كل المقومات التي تدفعهم إلى عدم الرضوخ حتى تحقيق كل أهدافهم، كما أن المجتمع العشائري في المدينة يولد مزيداً من التضامن بين أبنائها. إن الشعارات التي رفعت منذ اليوم الأول تدل على أن هذه الثورة هي ثورة الكرامة وعلى رأسها الحرية، وما يعزز فرضية تصاعد الاحتجاجات هو عدم إمكانية عزل محافظة درعا أمنياً وسياسياً، فلو ابتدأت الاحتجاجات في محافظات القامشلي أو الحسكة (وهي محافظات الوجود الكردي الكثيف)، لكان سهلاً على النظام السوري عزلها أمنياً وسياسياً، عبر اتهام الأكراد بأنهم يريدون الانفصال، ولو ابتدأت في حماة لكان سهلاً عزلها أيضاً عبر القول إن «الإخوان المسلمين» (الذين يحكم بالإعدام على كل منتسب اليهم وفقاً للقانون 49 الصادر عام 1980) هم وراءها، كما أن من الصعب أيضاً للاحتجاجات والتظاهرات أن تبدأ من دمشق أو حلب بسبب الوجود الأمني الكثيف فيها، وبالتالي أبتدأت الثورة في المكان المثالي الذي كان يمكن أن تبدأ منه. أما السبب الأخير الذي سيمنع النظام السوري من ممارسة العنف الشديد أو القمع العنيف للتظاهرات في درعا هو أن الكثير من قادة فرق الجيش هم من حوران، فتقريباً هناك ثلاثة من قادة فرق الجيش السوري العشرة من محافظة حوران، ولما كان العامل العشائري هنا قوياً، فإن ممارسة العنف الشديد ستولّد انشطاراً في الجيش السوري يدرك النظام عواقبه الخطيرة، كما يجب ألا ننسى أننا اليوم في عالم يلعب فيه الإعلام دوراً محورياً في التواصل وكشف المعلومات، كما أثبت رد الفعل الدولي في ليبيا الذي كان درساً حاسماً لأي نظام يعتبر أنه محلّل له ارتكاب الفظائع والجرائم بحق شعبه. إن الشباب السوري اليوم يخوض معركة مزدوجة، فمن جهة عليه العمل لاستعادة الجمهورية، بعد التوريث الذي ميّز عملية انتقال السلطة، ومن جهة أخرى العمل لاستعادة الديموقراطية. وفي الحالتين، فإن السوريين بكل أطيافهم وانتماءاتهم العرقية والدينية والاثنية لا يختلفون أبداً على أولوية النجاح، فسورية أرض حضارات عريقة متعاقبة، منها انطلق فجر الحضارة الاسلامية، واستمرت على مر التاريخ منارةً للأفكار الخلاّقة والمبدعة، وكان للسوريين الدور الأبقى في نشر الفكر العروبي على امتداد العالم العربي. والآن عليهم قيادة معركة الحريات ونشرها في العالم العربي، فدمقرطة الأنظمة العربية هي السبيل الوحيد لوضع أولويات ومصالح الشعوب على حساب مصالح الأنظمة، وهو ما يفتح المجال لبناء فضاء جيوسياسي واقتصادي عربي قادر على تحقيق الرفاهية لشعوب المنطقة كافة. إن الثورة السورية اليوم تهدف إلى تحقيق إصلاح سياسي جذري يبدأ من تغيير الدستور وكتابة دستور ديموقراطي جديد يضمن الحقوق الأساسية للمواطنين، ويؤكد الفصل التام بين السلطات الثلاث، التشريعية والقضائية والتنفيذية، ويشمل أيضاً إصلاحاً جذرياً للجهاز القضائي الذي فقد المواطنون الثقة الضرورية فيه، وبالطبع رفع حالة الطوارئ وإلغاء كل المحاكم الاستثنائية والميدانية وعلى رأسها محكمة أمن الدولة وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، وإصدار قانون عصري للأحزاب السياسية بما يكفل مشاركة كل السوريين من دون استثناء، وتحرير قانون الإعلام بما يضمن حرية الإعلام وإصدار قانون جديد للانتخابات، وتشكيل هيئة وطنية للحقيقة والمصالحة من أجل الكشف عن المفقودين السوريين والتعويض عن المعتقلين السياسيين، وفوق ذلك كله بالطبع يأتي إعطاء كل الحقوق الأساسية للكرد، وعلى رأسها منح الجنسية لما بات يقارب ربع مليون مواطن كردي حرموا منها نتيجة إحصاءٍ استثنائيّ خاصّ بمحافظة الحسكة عام 1962 وكذلك إلغاء التمييز الثقافي واللغوي بحق اللغة الكردية والنشاطات الثقافية والاجتماعية والفنية والاعتراف بحق التعلّم باللغة الأم، وإلغاء التمييز المنهجي الواقع عليهم وإعطاء المنطقة الشرقية الأولوية في ما يتعلق بمشاريع التنمية والبنى التحتية. ان للجيش في سورية مكانة مميزة، فالسوريون يرددون كل صباح «حماة الديار عليكم سلام»، أي أنهم يبدأون نشيدهم الوطني بتحية الجيش وحده من دون غيره من المؤسسات الوطنية أو الشعب كما هي حال الأناشيد الوطنية في البلدان الأخرى، لما كان له من دور في الاستقلال والحفاظ على الوحدة الوطنية بين أبناء سورية جميعاً، وفوق ذلك، فإن أهميته تكمن في أن جزءاً من الأراضي السورية لا يزال تحت الاحتلال الاسرائيلي بما يعنيه ذلك من مهام الجيش في التحرير وضمان وحدة أراضي الجمهورية وسلامتها. * باحث زائر في جامعة جورج واشنطن – الولايات المتحدة