في المقالة قبل السابقة (الدافع وراء إحراق كتب ابن رشد) ذكرت بإيجاز أن الدافع الرئيس وراء إحراق كتب الفقيه الفيلسوف كان سياسيا بامتياز. واعتمدت في تلك المقالة على المرويات التاريخية التي وردت في كتاب المفكر محمد عابد الجابري (المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد) وبما أنني في سياق وقوف السياسة خلف جل ما يحويه تاريخنا الإسلامي فكان من المستلذ أن أقدم «محنة ابن حنبل» كواقعة تاريخية لم تكن السياسة بريئة منها. وقبل أن نتوغل في هذه الحادثة سأستعرض نهاية أحمد بن نصر الخزاعي أحد أبرز الفقهاء المعاصرين لابن حنبل، فقد قتله الخليفة الواثق بيده بتهمة عدم القول بخلق القرآن! وصلب وعلق بجثته رقعة مكتوب فيها إدانته الطويلة التي بدأت بعبارة: هذا رأس المشرك الضال…! وحقيقة أن ما ورد في تاريخ الطبري يثبت الدافع السياسي وراء قتله فيقول الطبري: فلما أُتي بأحمد بن نصر لم يناظره الواثق في الشغب ولا فيما رفع إليه من إرادته الخروج إليه»! فبالتأكيد إن الواثق لو عاقبه جراء خروجه وهو من هو وما له من شعبية لكان ذلك محرجا لشرعية الواثق نفسها! أما ابن حنبل فبدأت خيوط قصته منذ اقتتال الأمين والمأمون وترك المأمون بغداد للشطار وقطاع الطرق بعد أن ذهب لعاصمته خراسان نكاية بأهلها الذين التفوا حول الأمين، عندها كوّن الأهالي ما يُعد أول لجان شعبية في التاريخ لحماية مدينتهم وكان على رأس هذه اللجان ما سموا بالمطوّعة ومعظمهم من رجال الحديث، ولما نجحوا في ضبط الأمن وكسبوا ود الأهالي وعادت الحياة لبغداد هرع إليها المأمون فوجدها تدين إلى المطوّعة (رجال الحديث) الذين يزاحمونه السلطة في عاصمة جده! ولم يكن بمقدور المأمون أن يجابههم لما لهم من شعبية جارفة، ولم يكن له إلا أن يفتك بهم بإقامة محاكم التفتيش المعتزلية تحت غطاء عقدي! كما أن هناك سببا آخر وهو أن معظم رجال أهل الحديث وفي مقدمتهم ابن حنبل قد حاولوا إعادة الاعتبار لمعاوية وأن له صحبة، لأن بني العباس قد بدؤوا في لعنه! كما فعل أحمد في إعادة الاعتبار لعلي عندما قال بالتربيع؛ أي جعله رابع الخلفاء، لأنه في زمن بني أمية كان يترضى عن الخلفاء الثلاثة فقط! وحقيقة أن مسألة خلق القرآن في نشأتها لم تكن بتلك المسألة الجوهرية في عقيدة المعتزلة كالتوحيد والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي في مقدمة أصولهم، بل كان أول الكلام حولها منطلق من لفظ «خلق» أي إحداث الشيء أو اختراعه وكانت تدور جل مناظراتهم في زمن بني أمية حول هل خلق الله عز وجل كلامه لحظة لفظه أم إنه كان في سابق علمه؟! ردا على العقيدة الجبرية آنذاك. ورأينا كيف حوّر اللفظ وارتقت لتصبح عقيدة للمعتزلة بدافع سياسي للفتك بأهل الحديث!