عندما تقع كلمة العامة على سمعنا، لا أعتقد أن صداها سيكون إيجابياً في أغلب الأحوال. إذ ارتبطت هذه الكلمة باللاعقل والفوضى وكافة أنواع البله. وبما أننا غالباً نمارس هذه البلاهة ونساير هذه المسلمات، فقلما نتوقف قليلاً ونفكِّر خارج الصندوق ونتساءل: هل من الممكن أن تكون العامة فعلاً بهذه الصورة ؟! وهل يؤيد النقل والعقل هذه المسلمة فعلاً؟! وحتى نجيب عن مثل هذه الأسئلة يفترض ألا نبتعد عن بداية تاريخ البشرية وبداية عيش الإنسان ضمن جماعات، فجدير بالذكر أن الإنسان بحسب الفرضيات كان يتصف بتقدير الذات وتوكيدها، بالتالي فهو لا يتقبل إطلاقاً أن يسلِّم أمره إلى غيره وإن كان هذا الغير يتمتع بصفات يتميز بها عنه كقيادة الجماعة فهو في أسوأ حال إيجابي نشط يناقش ويحاور حول أي قرار. تطورت الجماعات وعرف البشر الاستعباد والقهر والتعذيب وحدثت فجوة بين الجماعة ورئيسها وانتزع من المجتمعات البشرية حقها في سياسة نفسها بنفسها. ومنذ أن عرف الإنسان الحياة المدنية والحضارة وهو وحقوقه السياسية بين شد وجذب، فمنذ ما قبل الميلاد والإنسان كما يقرأ في التاريخ عاش حالات متفاوتة من المشاركة السياسية، إلا أنه غلب عليه الحرمان من حقوقه السياسية. ونحن كمجتمع عربي كان الناس وإن كانوا يعيشون في مؤسسة اجتماعية بدائية (القبيلة) إلا أنهم كانوا يتمتعون بحقوقهم السياسية، ويشاركون في صناعة قرارهم حتى جاء الإسلام وعزَّز مكانة الإنسان كفرد يعيش وسط الجماعة وألغى الامتيازات والطبقية وبقية أشكال التمايز العنصري. ثم ما لبث أن عادت الطبقية شيئاً فشيئاً، فأصبح المجتمع العربي يتكون من عامة وخاصة! عامة غالبيتهم سذج وخاصة غالبيتهم نجباء وأصحاب فطنة. والمؤسف أن هذه الطبقية عبر التاريخ تشرعنت وامتدت حتى إلى التأصيلات الشرعية، وأصبح الفقهاء والوعاظ يقرّعون العامة ويوبخونهم ويكتمون بعض العلم عنهم خشية حماقتهم ورعونتهم! الدكتور محمد الجابري له أطروحة عميقة ومدججة بالمعطيات والثوابت، تفيد بأن التمايز الطبقي ونشوء طبقة خاصة وتحقير العامة بعد ظهور الإسلام، إنما تسرب من الحضارة الفارسية المثقلة بالقيم الكسروية المقيتة! فخاصة كسرى ورجالات الدين من حماة النار المقدسة يطلعون على ما لا يصح أن تطلع عليه العامة البلهاء! فمع تحول الخلافة إلى ملك، شيئاً فشيئاً وجد السلاطين القدماء في الموروث الفارسي ما يخدم مصالحهم ويكرس امتيازاتهم، وعزز ذلك قانون العزل السياسي الذي فرض بالقوة على المجتمع الإسلامي آنذاك، فأصبح الناس يجهلون مصيرهم ومآلاتهم، وجراء غياب الشفافية واحتكار المعلومة كان من الطبيعي أن يتحول الناس إلى عامة جهلاء!