تناقلت الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي صوراً لشباب سعوديين يزاولون مهنة الحلاقة أثناء موسم الحج، وتباينت القراءة ما بين ساخر بأبجدية لا تتعدى التندر والفكاهة المجردة، وما بين من استغلها للتشفي من برامج (السعودة)، ولو أنني أتسامح كثيراً مع المصطلحات من باب (لا مشاحة في الاصطلاح) لقلت إن الأفضل أن نقول (توطين الوظائف) بدلاً من (سعودة)، ومن ثمّ نعود للفئة الأكثر تأثيراً. وفي الوقت نفسه الأكثر بعداً عن قراءة واقع المجتمع؛ ممن امتهنوا التنظير عن الشباب العاطلين، وجعلوا من شباب (شارع التحلية) أنموذجاً للشاب العاطل تُقاس عليه البقية. الفئة الأولى والثانية تناولتا الموضوع من باب (وناسة) وربما تفريغ شحنات مكبوتة، وهؤلاء لن يستوقفنا هزلهم، أما الفئة الثالثة باعتبارها الأكثر تأثيراً وحشداً للمبررات التي تقاتل لتثبت أن لدينا بطالة (وظائف) لا بطالة (عمل)، هؤلاء كما أسلفنا يقيسون الشباب بناءً على أنموذج (شاب التحلية) فالأنموذج الموجود بمخيلتهم عن العاطل أنه يزرع الشوارع ليلاً وينام نهاراً، ويمتطي سيارة فارهة، ويتعامل مع ميراث (جوبز) باحترافية، وينتظر مكالمة من والده لتوجهه لوظيفة في إحدى الوزارات!. الشاب السعودي أثبت غير مرة أنه متى ما وجد الفرصة فسيبدع، لكن في الواقع أنه محروم من هذه اللطيفة (فرصة).. والغريب أننا البلد الوحيد بالعالم الذي إذا أردت دخلاً (محترماً) فعليك ألا تعمل!، كل ماعليك -ببساطة- أن تبادر للحصول على سجل تجاري (حقيقي)، ومن ثم (تشتغل بالوهمي): تفتتح مؤسسة وهمية وتستقدم عمالة متنوعة وتتركهم يجوبون البلد فيما تحصل أنت في آخر كل شهر على جزء من رواتبهم! وإن ساعدك ذكاؤك فيمكنك افتتاح مزيد من الفروع (الوهمية) وزيادة غلّة الدخل، والعمالة التي تجاوزت في آخر إحصائية%31 من جملة سكان المملكة!مبررات كثيرة رغم تفاهتها، تحاول أن تُثبت أن الشاب السعودي لن يقبل بعمل مهني، منها التركيز على ثقافة العيب تجاه بعض المهن أو الحرف، مع تجاهل أن المملكة لا تحكمها ثقافة واحدة، وما تعده قبيلة أو إقليم عملاً غير لائق قد لا يكون كذلك عند الآخرين. ولكي لا أقع في كلام مرسل وتنظير هش، فقد عايشت قبل عامين تجربة فريدة تنسف كل الحجج التي يسوقها من يريد ترسيخ نظرية أن الشاب السعودي أسير لثقافة العيب.. التجربة بدأت من إعلان إحدى الجهات الحكومية عن وظائف (عمال نظافة) برواتب تتجاوز ثلاثمائة ريال، وفعلاً تقدم أضعاف العدد المطلوب، منهم أصدقاء وشباب من جميع المناطق، ومن قبلوا مازالوا يؤدون عملهم، ونسب التسرب لا تتجاوز النسب المعقولة، هؤلاء هم الأنموذج الذي ينبغي أن يُقاس عليه، هؤلاء وغيرهم الكثير يعرفهم رجال الأعمال جيداً، لكن تبقى المسألة ببساطة غارقة بجشع بعض رجال الأعمال الذين هم القادرون على إيصال صوتهم بأن (سواعد) الشباب لا يمكن أن تبني، فيما يتجاهلون أن (أكتافهم) من تهدم، حجتهم التي هي باختصار ممل ومخل في آن (لماذا أُعطي سعودياً راتباً ثلاثة آلاف ريال ودوامه اليومي لا يتجاوز ثماني ساعات (كما هي أنظمة العمل)، فيما يمكنني استقدام خمسة عمال براتب سعودي واحد، ويعملون 12 ساعة في اليوم)!. هذا السؤال يجب أن يكون له إجابة نقرؤها جيداً!.