تلقيت دعوة كريمة من «شبكة الأفكار الأوروبية» في (مدريد) للمشاركة في ندوة حول: «مستقبل الثورات العربية وأوروبا»، تضم الشبكة ستمائة متخصص من صانعي السياسات وقادة الرأي في الاتحاد الأوروبي، منهم رجال أعمال وأكاديميون وسياسيون وإعلاميون وممثلون للمجتمع المدني، ويتمحور عملها حول محورين رئيسين: ما التحديات التي تواجه سياسة أوروبا في السنوات المقبلة ؟ وما الحلول العملية للتصدي لها؟ معظم الشواغل والهواجس للمشاركين الغربيين في هذه الندوة، يمكن صياغتها على النحو التالي: ما مستقبل الإسلام السياسي في المنطقة، وتأثير ذلك على دول الاتحاد الأوروبي؟ وهي تكشف -في العمق- عن أن رؤية الأوروبيين للشرق الأوسط لم تتغير، سواء قبل ثورات 2011م أو بعدها، وهو شيء قريب مما أسماه «دومينيك مواسي» مؤلف كتاب «الجغرافيا السياسية للعاطفة» : « الدبلوماسية العميان « التي تفتقر إلى الخيال وتحافظ على العادات الذهنية الخاطئة، التي سبق أن حذر منها الفيلسوفان «فرنسيس بيكون» و«ديفيد هيوم» قبل قرون. خلاصة ما قاله مواسي هو: «إن الشرق الأوسط الجديد الذي ينشأ أمام أعيننا الآن ربما ينتمي إلي عصر ما بعد الغرب وذلك نظرا لصعود قوى جديدة، وعصر ما بعد الإسلاميين في ظل الثورات التي يقودها شباب متمرسون تكنولوجيّا ولا يربطهم بالإسلام السياسي أي رابط». لقد كتبت في عام 2010 مقالا في «إيلاف» عن «ثورة الشباب في إيران»، أكدت فيه هذا المعنى وأكثر، واستشهدت به في هذه الندوة باعتباره (نوع من الاستشراف) لما حدث في العالم العربي في عام 2011، قلت: إن وسائل الاتصال الحديثة التي استخدمها الشباب الإيراني بمهارة (في المراوغة والتهديف) في شباك المحافظين، أو قل إن تكنولوجيا الاتصالات تلاعبت بالاستقرار المطمئن بين الديني والسياسي في إيران، مثلما تلاعب الإمام الخميني بها (عبر الكاسيت) منذ وصوله إلى السلطة عام 1979 وهو ما يقلب مفهوم «السلطة» ذاتها رأسا على عقب، لتصبح (خاضعة للتكنولوجيا)، فاللغة الفارسية مصنفة على أنها رابع لغة تدوين على شبكة الإنترنت، ويوجد في إيران أكثر من مائة ألف مدونة تجري دراستها بدقة بالغة في مراكز الأبحاث العالمية، باعتبارها تعكس الوجه غير المعلن للمجتمع الإيراني خصوصا شريحة الشباب. وإذا كان هؤلاء « الشباب » هم كلمة السر فيما حدث ويحدث، حيث إن 70 ٪ من سكان إيران دون سن الثلاثين باعتبارهم الأسبق على التعاطي مع العولمة وأدواتها والأجدر على الاستجابة والتقبل السريع لآلياتها وسيرورتها الكمبيوتر والإنترنت ( فيس بوك وتويتر ) والمحمول ( أي فون ) وشبكات المعلومات المعقدة فضلا عن أن العولمة موجهة بالدرجة الأولى إلى الشباب في العالم كله. فما الذي يمنع شباب 2010 في إيران، حتى لو اعتقلوا أجسادهم وزجوا بهم في غياهب السجون، من تصدير ثورتهم الافتراضية والفعلية إلى الشباب العربي الذي يعادل 70 ٪ أيضا من تعداد الشعب العربي؟». النظرة الضيقة للأوروبيين منعتهم من رؤية أوسع وأشمل للتحولات والثورات في الشرق الأوسط، وهي تأثير هذه الثورات العربية على «الأزمة الاقتصادية العالمية»، وحسب تعبير البروفيسور «نوريل روبيني» ورئيس مرقب روبيني للاقتصاد العالمي. نحن أمام معضلة عالمية جديدة يمكن تسميتها ب»اقتصاد الأزمة» وهو عنوان مؤلف ضخم شارك فيه روبيني مع علماء اقتصاد آخرين، ذلك أن معظم الشباب في العالم ( خاصة الشباب في الشرق الأوسط ) قد تلقوا تعليما جيدا – على مدى العقدين الماضيين – وامتلكوا أدوات العصر التكنولوجية ووسائل الاتصال الحديثة، وكان من المأمول أن يلتحقوا بوظائف ومهن أفضل وأن يصعدوا سلم الحراك الاجتماعي (الطبيعي)، لكن يبدو أن الأزمة الاقتصادية منذ عام 2008 جاءت بما لا تشتهي السفن فازدادت نسب البطالة بين هؤلاء الشباب المتعلمين والمؤهلين لسوق العمل (وليس غير المتعلمين أو المتعلمين تعليما متوسطا). وتلك مفارقة كبرى تواجه معظم دول العالم شرقا وغربا. «روبيني» كتب مؤخرا مقالا لافتا بعنوان «العواقب الاقتصادية للثورات العربية»، أكد فيه: أن الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية في الشرق الأوسط سيكون وعرا وغير مستقر، حيث المطالب المكبوتة بزيادة الدخول والرفاهية. لكن الحماسة الديمقراطية قد تؤدي إلى عجز ضخم في الموازنات وارتفاع معدلات التضخم وهو ما سيسفر في نهاية المطاف عن أزمات اقتصادية جديدة، أصعب من عام 2008.